الى من يهمّه الأمر... عن الحياد والمقاومة ولبنان....
الى من يهمّه الأمر... عن الحياد والمقاومة ولبنان....
المصدر: "النهار" .... المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان ....
حين تتعرّض البلاد للغزو بأنواعه، أو للحصار بكيفياته، يصبح الحياد خيانة، فالقرار الوطني وكرامته ما هو إلا وطني بثلاثية جيش شعب مقاومة، وليس الاستسلام لمن يغزونا أو يحاصرنا. تذكروا جيّداً أن لبنان بلد كان على الخريطة موجوداً وما زال، قبل ما تسمى السلطة العثمانية أو الانتداب الفرنسي، واستمرار وجود لبنان هذا ليس منّة من أحد، سوى منّة تضحيات أهله وعزّة تاريخهم وثبات كرامتهم. وإن الانتداب الفرنسي تعامل مع لبنان على نحو مصالح ما وراء البحار، وحتماً لم يتعامل معه كوطن للشراكة أو كسلطة مجرّدة أو كمجتمع تحكمه ديموقراطية المواطن.
ولا شك أن لبنان اليوم لا يختلف عن لبنان الأمس، فهو في الخريطة الأميركية ليس خط تماس، بل هو مقاطعة نفوذ أميركي يستخدم لما يخدم مصالح واشنطن في المنطقة، وبالأخص إسرائيل فهي أكبر مصالحها في منطقتنا.
وتذكّروا يا أصحاب السيادة أن الحدث التاريخي المبهر في هذه الفترة العصيبة هو أن الذي استردّ لبنان، وانتشل الدولة والمؤسسات الدستورية والمرافق والأرض والشعب من مخالب الإسرائيلي هو فقط المقاومة، وأنه مع اندحار إسرائيل المدويّ عام 2000 فقدت الإدارة الأميركية أعصابها وتحوّلت إلى خصم لدود وانتقلت من لعب دور القناع الحيادي إلى الخصم المباشر.
ولماذا ننسى؟ أو كيف ننسى؟ الغزوة التكفيرية الدولية التي صنعتها واشنطن وتمّ تظهيرها باسم الربيع العربي، والتي كانت فيها عين واشنطن على أن تحرق لبنان وتغيّر هويته ووظيفته وتقتل أبناءه، فبالرغم من ذلك جرى إنقاذ لبنان بمسيحييه ومسلميه من مذابح التكفيريين المتأمركين عبر المقاومة وكان الثمن فيها دماء مقاومين وقتال هو الأندر بالتاريخ، وانتهى بانتصار للمقاومة ندر مثيله.
ثم ألم تر بعض العيون وتسمع بعض الآذان عن تدريبات تل أبيب وإعلاناتها الأسبوعية بغزو لبنان ونهب ثرواته الباطنية والسيطرة على قراره ونفطه وغازه وموارده ودولته وشعبه؟ أم هي قلوب لا يفقهون بها وآذان لا يسمعون بها وأعين لا يبصرون بها، ألم تقتنعوا إلى الآن أن الرادع المانع لإسرائيل هو المقاومة بكل ما تعنيه من ترسانة تقض مضاجع تل أبيب وليس قولة إن لبنان قوته في ضعفه.
يا إخوتنا وشركاءنا بل وأنفسنا، تأكدوا أن لبنان بمقاومته القوة الإقليمية العظمى، هي قوة استقلال وتحرير ودفاع، قوة حرّرت ولم تحكم لأنها تريد لبنان التنوع والشراكة والسلم الأهلي والضمانات الوطنية. بالتالي، إنقاذه يكون عبر تحريره من روابط التبعية التي حوّلته إلى سجين ليعود سيّداً حراً، والأميركيون يريدون لبنان تابعاً ذليلاً وبلد مصالح لأميركا وإسرائيل، ونحن لن نقبل بهذه التبعية لأنها عدوان محض، خاصة أننا أقوياء ونملك من الخيارات والنفوذ ما يمنع الجلاد الأميركي من ممارسة ذبح هذا البلد.
وعليه، تحرير القرار الوطني أيها الإخوة هو بكفّ يد القراصنة الدوليين والإقليميين عن لبنان، هو بتمجيد من حرّر البلد وأنجز الاستقلال وما زال، وليس بتقديم لبنان لأنياب من حوّل البلد إلى مسلخ لمصالحهم القذرة، ثم أيها السادة إن الخلاف على لبنان ليس خلافاً على هويته الجامعة وسلمه الأهلي وشراكته الوطنية، ونحن لا نريده شرقياً على حساب الغرب، لكننا لا نقبل أن يبقى لبنان ملعباً للغرب ومسرحاً لغزواته ومشاريعه أو بلداً بلا هوية وطنية واستقلال حر، فلبنان يجب أن يكون لأهله وضمن مصالحهم، بمسيحييه ومسلميه، وعلى طريقة الشراكة الوطنية بعيداً عن طاعون الطائفية السياسية المشبوهة، ولا يجوز تحت قناع الحياد إطلاق يد الجلاد لإبادة مصالح بلدنا وناسنا ومشروعنا الوطني، لأن الحياد بين لبنان وإسرائيل خيانة، كما أن الحياد بين حصار أميركا وبين مصالح لبنان خيانة، لأنه لا حياد بالمعارك والمصالح الوطنية، والحياد بين الحق والباطل في منطق الدين والأوطان جريمة، ولبنان بلد له مصالح محقة محلية وإقليمية ودولية ولا يجوز أن يكون محايداً في مصالحه ومصالح شعبه وناسه ومشروع دولته وسيادته.
عودوا أيها السادة واقرؤوا تاريخ لبنان الحديث، والذي لا يمكننا أن نقرأه من دون أن نقرأ الإمام السيد موسى الصدر، وحركة المحرومين أمل المقاومة، لأنه الشخصية المفصلية في تاريخ المقاومة ومشروع الحماية السياسية والمجتمعية للبنان، هذا الإمام الذي نفتخر بالانتماء إلى مؤسسته، وهو الذي أصرّ على أن لبنان يعيش ضمن مخاض صراعات دولية إقليمية، وظيفتها التهام الدول الضعيفة، ولذلك أعلن النفير المقاوم وصرّح بحرمة الحياد حين يكون الوطن بين أنياب الجلاّد، مهما اختلف اسمه أو سلاحه أو طريقة استنزافه للبلاد والعباد والوطن. ولماذا لا نتذكر تعاليم الأديان وخاصة الأديان السماوية التي قالت إن من يقدّم الأضاحي هو عظيم عند الله، وأن من يحرر الأرض هو حارس لأوطانها، وأن العادل خير من الظالم، وأن العاطي خير من الآخذ، وهذا يعني أن نمجّد مقاومتنا وسلاحها الذي بذل وأعطى وقاوم وكافح ولم يأخذ ولم يحكم، وليس أن نتكّر له أو أن نتآمر عليه، وهذا المبدأ نفسه الذي يطرّز ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة بوسام التحرير والحرية والسيادة والاستقلال كعنوان لهوية لبنان ومجد حاضره وتاريخه ومستقبله.
نحن اليوم لسنا ضعفاء حتى نقبل بالعودة إلى الوراء، أو أن نتراجع إلى الخلف، تماماً كما قال الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان يوماً ما أننا خرجنا من القمقم ولن نعود إليه، بل سنعتمد كل طريق يمكننا من تحقيق مصالح شعبنا وناسنا وشراكتنا الوطنية، لتأكيد استقلالنا وتعزيزه وتمكينه، فلن نساوم على لبنان المستقل. علينا أن نتذكر المنطق الوطني الذي يفترض علينا جميعاً التفتيش عن مصالحنا كمسيحيين ومسلمين ننتمي لوطن واحد في كل أصقاع الأرض، لتأكيد شراكتنا، وهذا يعني ضرورة التفريق بين القاتل والمحتل وبين المقاوم بخلفية أن الحياد اتجاه القاتل خيانة للوطن والبلد والناس.
فلمن يهمه الأمر
إننا نمرّ بمرحلة تاريخية حساسة، ولسنا معزولين عن العالم، وامتدادنا الجغرافي والسياسي والمعيشي يضعنا في قلب معادلة قوية وآمنة وضامنة ووسائل وأنماط تمنع لبنان من السقوط، أو التراجع، وهي موجودة وقوية سوى أننا نمارس أخلاقية مدّ الجسور وعدم تدميره حتى الآن.
علينا، أن نعلم جميعاً أن حماية لبنان تعني حماية العيش المشترك والسلم الأهلي ومشروع الدولة الضامن والجامع والكافل، وبالتالي أي تهديد للسلم الأهلي والعيش المشترك يعني نحر البلد وتحويله إلى دويلات، ولا أعتقد أن هناك من يريد أن يحوّل لبنان إلى النموذج الليبي أو غيره، وبلا شك لن يكون بمقدور أحد أن يفرض أي نموذج عدواني أو تقسيمي أو ديمغرافي على لبنان، لبنان أيها الإخوة أكبر من لعبة بهذا الحجم، وأي مغامرة بهذا الاتجاه هي فاشلة ومدمرة لصالح عدو البلد.
وكإشارة إصلاحية يا أصحاب السيادة، أحب أن ألفت النظر اليوم وغداً وأذكر بأن لبنان للجميع، ما نعاني منه هو الطائفية السياسية البغيضة، فهي طاعون هذا البلد، لذلك دفعنا وندفع بشدة نحو الخلاص منها، لتأكيد منطق دولة المواطنة المدنية، ومصالح شعبنا وناسنا. فالضمانة الوحيدة أن نكون وطنيين بمصالح هذا البلد أينما كانت هذه المصالح في الشرق أو الغرب، لكن ليس على حساب سيادته واستقلاله الذي تطرّز بعشرات السنين من العناء والشهداء والدماء وما زال، بل وفق مصالح شعبنا وسلمنا الأهلي ومشروع دولتنا، دون غبن أو خوف أو تلاعب ديموغرافي أو تقسيم جغرافي أو بكاء على أطلال مضت، أو فتنة داخلية أو حرب أهلية أو كسر لانتصارات لبنان التاريخية.
من هنا، لتلافي أشدّ الأزمات، علينا أن نعيد بناء البلد وفق دستور جديد وقوانين وأطر ومشاريع حكم تمنع الطبقية المواطنية والحسابات الضيّقة، تمنع اللصوصية والسمسرات، وتنهي القوانين البائدة وبالأخص المتعلقة بالطائفية السياسية، لأن من يربح الحرب الخارجية يجب أن يربح الحرب الداخلية في مواجهة الفساد والاضطهاد والاحتكار السياسي وغيرهم.
ختاماً أيها الإخوة، لبناننا باقٍ ولم ينتهِ، ورغم ورود طواغيت التاريخ وسواطيرهم عليه لم ينته ولن ينتهي، سوى أن يد المستبد بمختلف أشكالها يجب أن تقطع بإحكام لتحقيق مشروع إنقاذ لبنان الوطني، لبنان الشراكة والسلم الأهلي والحرية والاستقلال والدولة الوطنية المدنية الجامعة.