جداليات التفكير الديني في إيران قبل الثورة وبعدها السياقات التاريخية والمرجعيات بقلم عبد الجبار الرفاعي

تاريخ الإضافة الأحد 4 تشرين الأول 2009 - 7:06 ص    عدد الزيارات 1478    التعليقات 0

        

ليس بوسعنا تقديم قراءة أقل تحيزا للتفكير الديني في إيران من دون الاشارة بايجاز الى السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للاجتماع الإيراني، فالإنسان ابن بيئته والمحيط الخاص الذي ينشأ ويتموضع فيه، والفكر حصيلة تفاعل الذهن والوجدان والمخيال مع الواقع وملابساته، وما يحفل به من اختلالات وتحولات متعاقبة. وميزة التفكير الديني في إيران انه ذو جذور راسخة في التاريخ، وينهل من منابع لاتنضب، وتغذيه روافد غزيرة، وتتنوع مرجعياته التي يستقي منها ويصدر عنها. ونلمح في ما يلي الى شيء من تلك المرجعيات والمنابع والجذور والخصوصيات:
1- ظهرت حضارات عدة في عصور سحيقة في العالم، غير ان معظم هذه الحضارات اندثرت وانطفأت ثقافاتها، وماتت لغاتها. اما الاشارات والحروف المستخدمة لديها في التدوين، فخرج معظمها من التداول الى الأبد. ولم تعد للناس في البلاد المتوطنة فيها تلك الحضارات اية وشيجة تربطهم بها، لانتمائهم لثقافة بديلة هاجرت في ما بعد الى هذه الديار، ولم تكن قادرة على وراثة الثقافات والحضارات السابقة عليها، اثر انقطاع أية وسيلة للتواصل معها، من لغة، أو خط، أو دين، أوآداب... وافتقر الكثير من الحضارات الى التواصل مع ماتلاها في الرقعة الجغرافية ذاتها، فلم يكن تاريخها تراكميا، بل تجلت فيه القطيعة التاريخية والانفصال التام عن الماضي البعيد.
لكن شيئا من التواصل الحضاري، واستيعاب الثقافة اللاحقة لبعض عناصر الثقافة السابقة ومكوناتها، وتمثلها، واعادة إنتاجها، كان علامة فارقة للحضارات الإيرانية المتعاقبة، فالساسانيون ورثوا الاخمينيين، وهكذا حال الاقوام الذين خلفوهم في العصور الإسلامية، فقد ورثوا خلاصة ما انجزوه من انماط تمدن، وفنون، وآداب، وفولكلور، وثقافة، ولغة...  فأضحى تاريخ هذه البلاد تراكميا، تتداخل وتتفاعل ايجاباَ في انساقه الثقافات، ويتصالح فيه الحاضر مع الماضي، ولايطمسه، أويجتثه، أوينفيه. اي ان التاريخ هنا لا يبدأ من الصفر دائما مثلما تفعل بعض المجتمعات غيرالقادرة على مراكمة خبراتها وتطويرها. كما ظل الدين احد مكونات الهوية القومية، وتم دمجه بسواه من العناصر الاخرى المحلية.
 2- انفتح الإيرانيون على الثقافات الشرقية والغربية في وقت مبكر من تاريخهم، ففي مدرسة جندي شابور تمازجت مجموعة مكونات ثقافية وافدة من اثينا ومدرسة الاسكندرية والهند وغيرها، وتلقت الثقافة الإسلامية بعض النصوص الشرقية عبر مرورها بالفارسية، وأمست إيران قنطرة لعبور آداب وفنون ومعارف المجتمعات الاخرى، من الشرق الى الغرب، ومن مشرق البلاد الإسلامية ومغربها الى آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية. ونشاهد في آثار عدة ما يشي بالدور التي اضطلعت به المراكز والحواضر العلمية في هذه البلاد، كما في (تحقيق ماللهند من مقولة...) للبيروني.
3- عمق التجربة الروحية وغناها وتنوعها، فالشخصية الإيرانية مسكونة بالأسرار، تدمن الارتياض، والممارسات الطقوسية، المتمثلة بالأدعية، والمآتم الحسينية، ومجالس الذكر، والزيارات.... وكل ما من شأنه تكريس نزعة الاستشراف والحوار الجواني، والتأني والصبر والجلد، والتخلص من النزق والطيش، والتسرع في اتخاذ المواقف والقرارات.
4- الفسيفساء الأثنية والفضاء الاجتماعي في إيران مشبع برموز وشفرات واشارات تهب الإنسان إمكانات واسعة للتأمل والتدبر وإمعان النظر حين يتعامل مع الغير، وتمنحه عملانية وواقعية، وقدرة على التكيف والانسجام مع الآخر والإصغاء له. وكان من نتائج ذلك ان اصطبغ الانتاج الفكري بمواءمة وتوليف مجموعة عناصر ودمجها وسبكها في مركب تستقي مادته من منابع مختلفة وتغذيه مناهل متعددة.
5- يمكننا ملاحظة الأبعاد الجمالية بوضوح في الآداب والمواجيد والشعر الصوفي في ايران، مثلما يتجلى الذوق الفني في الرسم والفنون التشكيلية والموسيقى والسينما والمسرح، وتدبير المنزل والعمارة والبناء. وتفيض اللغة الفارسية بالرقة، وترفد المشاعر والأحاسيس بالدفء، بما تشتمل عليه من ايقاع صوتي وسلم موسيقي متناغم.  وهكذا تحاكي الطبيعة الأبعاد الجمالية في التمدن الإيراني، بتضاريسها الخلابة، واختلاف مناخاتها وتنوع طقسها، بنحو تتجاور فيه أربعة فصول في وقت واحد.
6- امتداد الميراث العقلاني في المنطق والفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه،  والاهتمام بدراسته وتدريسه على الدوام، واستدعاء تقاليد المناظرة والمدارسة والمباحثة والجد ل بأسلوب (إن قُلتَ قُلتُ) في التعليم الديني في الحوزات العلمية.
وقد كان للحضور الابدي للمعارف العقلية في الحوزات العلمية بالغ الأثر في اطلاق عملية التفكير وتنميتها، وان كانت تلك المعارف ماانفكت تتحرك في قوالب المنطق واشكال القياس الارسطي التي ظلت تعمل على كبح العقل، وعدم تجاوز الترسيمات المعروفة في تشكيل وصياغة المفاهيم، وفي المحاججة والاستدلال. بيد ان آفاق التفكير العقلي لم تنغلق تماما، ذلك ان المنهجية التشكيكية، ونمط الأدوات والمفاهيم المتداولة في المعارف العقلية الموروثة ساهمت في ايقاد جذوة التفكير وتأجيجها باستمرار.
7- عراقة المنحى التأويلي في الموروث الشيعي، ونموه وتكامله عبر الزمن، بإقتناص واستلحاق رؤى وادوات منهاجية مختلفة. وشيوع دراسة العرفان النظري، خاصة نصوص وتراث المتصوف المعروف محيي الدين بن عربي، وهي نصوص تفيض بنزعة إنسانية، ومواقف تصالحية مع الاديان والثقافات، وتعمل على اكتشاف المشتركات، حين تتوغل في جوهر الاديان، وتغوص في عمق التجارب الدينية لاتباع الملل والنحل المختلفة، لترصد تجلياتها وآثارها العامة.
وهذا ما دعا لاهوتيين كبارا مثل العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي ان يتعامل برفق ورقة واحترام مع نصوص ديانات آسيوية. يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان: العرفان اول ما يسترعي اهتمامي. اجد انشدادا قويا الى العرفان، انا من عشاق المذهب الطاوي، واهوى «جوانغ تزو» للغاية. قضينا دورة بأستاذية العلامة الطباطبائي، وكان يبدي رغبة اكيدة في الاطلاع على كتاباتهم، ولأنها لم تكن مترجمة، عكفت انا والدكتور سيد حسين نصر على ترجمتها. كان يفسر شانكارا كأنه استاذ بالضبط، ويتركنا في حيرة من الأمر، فمثلا في أحد الاوبانشادات عبارة تنطوي على مفارقة «الذي يفهم لا يفهم، والذي لا يفهم يفهم» وقد فسّر الطباطبائي هذه العبارة، واجلى غشاوتها، وحلل مضمونها، بنحو أدهشني. بعد ذلك ترجمت انا والدكتور نصر كتيبا صغيرا من تأليف لاوتسه، اسمه «داو جينغ» كله مفارقات. نقلناه من النص الانجليزي الى الفارسية. وحينما قرأه العلامة الطباطبائي قال: «هذه أهم رسالة قرأتها في عمري» وصار من عشاق «داو جينغ».
كما ان نصوص العرفاء والمتصوفة تعمل على خلق مناخات رحبة للتأويل وتعدد القراءات وتنوع الفهم، وبالتالي تجاوز ظواهر الألفاظ، ومحاولة اقتناص مداليل لاتحكيها الكلمات بصراحة.
8- في نصف القرن الاخير حدث انزياح واسع للغة العربية في الحوزة العلمية في قم، فأصبحت بالتدريج لغة ثانية، بعد ان عبرت اللغة الفارسية الى الحلقات الدراسية والنقاشية، واصبحت تحتل مواقع العربية في المقررات الدراسية والتعليم والتأليف.
وتغير لغة التعليم الديني يعني تغيرا في الرموز الدلالية، واسلوب بيان المفاهيم، والتعبير عن الرؤى والافكار. ولاريب في ان صياغة المفاهيم والرؤى والآراء والمعارف الدينية بشفرة لغوية اخرى، سيفضي الى تشكيل حقل دلالي بديل، وانبثاق فضاء ثقافي، يستمد مكوناته وعناصره من ميراث هذه اللغة وآدابها، وأساليبها البيانية والتعبيرية، ذلك ان لكل لغة معجمها الخاص، وتراكيبها، وبنيتها، ومواضعاتها، وملابسات نشأتها وتحولاتها.
ومن المعلوم ان نصوص كل دين عندما تنقل من لغة الى اخرى، تعاد صياغتها في آفاق اللغة الجديدة، وطبيعة ثقافة الشعب الذي يتحدث بها. ممايمنح النص فاعليات وامكانات مختلفة، لم يمتلك شيئا منها في عوالم اللغة السابقة.
وبوسعنا ملاحظة تحولات الفكر الديني المسيحي عندما عبرت نصوص هذه الديانة من الآرامية الى اليونانية، فاللاتينية، واخيرا اللغات الاوروبية بعد حركة الاصلاح الديني ودعوة مارتن لوثر لترجمة الكتاب المقدس للألمانية والانجليزية والفرنسية.
9- في معظم البلاد العربية والإسلامية تتخصص بالدراسات الدينية الحواضر العلمية التقليدية ومدارس وكليات الدراسات الشرعية، ولايهتم الاكاديميون وعموم المثقفين من غير الدارسين في تلك الحواضر والمدارس والكليات بهذا النوع من الدراسات، وربما يحسب الكثير منهم ان مهمة التفكير في الدين وما يرتبط به من اشكاليات امر لايعنيهم، باعتباره من مهمات تلك المؤسسات، ولذلك لا نجد تيارا في وسط النخبة يصنف على المثقف الديني، الذي يتعاطى مع الموروث والتمثلات الاجتماعية للدين بوعي نقدي، وباستطاعته توظيف المفاهيم والادوات المنهاجية في العلوم الإنسانية الحديثة، حين يتعامل مع تعبيرات وتمثلات الدين في الواقع.
بينما تنخرط معظم النخبة في إيران في التفكير الديني، ويتعذر على الحواضر العلمية الدينية المعروفة بالحوزات العلمية احتكار التفكير والدراسة والبحث في قضايا الدين وظواهر التدين، ذلك ان الدارسين والباحثين في الجامعات والمنتديات الفكرية والجمعيات الثقافية يتناولون الشأن الديني وانماط التدين في حلقاتهم النقاشية ودراساتهم ومحاضراتهم، وتحضربكثافة مقولات ومناهج المفكرين الغربيين وآراء رواد تحديث اللاهوت الكنسي في مقارباتهم للشأن الديني.
10- شمولية التفكير الديني وشيوعه لدى معظم الناس، فكثير منهم ينخرطون في جداليات وسجالات دينية، والكل يتداولون الافكار والمعتقدات الدينية، حتى ان المفكرين والكتاب المعروفين في إيران يتوارثون تقليدا في التواصل مع المجتمع من خلال ندوات ومحاضرات جماهيرية، يحضرها مئات الاشخاص في المساجد والحسينيات والجامعات، وتسجل في اشرطة ضبط الصوت وتطبع في كتب لتوزع بشكل واسع.
وهذا التقليد الثقافي في التواصل مع الجمهور يدعو المفكر الديني لبناء خطابه وتنظيم افكاره بنحو ينسجم مع المشاغل الذهنية للناس، وما يملأ مخيالهم من فلكلور وأمثال وحكايات ورموز وشفرات وميثولوجيا... وغير ذلك.
ان جدلية المتحدث والمتلقي تثري الخطاب، وتحرره من تهويماته التجريدية، وتقحمه في مطامح الناس وأحلامهم، وتوجه مساره نحو الهموم العاجلة، وتدعوه للاستجابة للمتطلبات الراهنة للاجتماع البشري.
11- مشروع الدولة الإسلامية كان احد احلام الدارسين في الحوزة العلمية منذ مدة طويلة، وقد استطاعت الحوزة في خاتمة المطاف تجييش وتعبئة الجماهير، تحت لافتات وشعارات تطبيق الإسلام، واشادة حكومة الحق والعدل، من خلال اعادة صياغة الحياة الاجتماعية في ضوء الفتاوى والاحكام الوفيرة في التراث الفقهي، فتحقق الظفر بانتصار الثورة، والاعلان عن الدولة الإسلامية.
لكن الكثير من المتحمسين لتطبيق الفقه، والاستناد اليه في تنظيم الادارة، والاقتصاد والمال، والثقافة، والتربية والتعليم، اكتشفوا غربة حقل واسع من الفقه عن الواقع، وغربة الواقع عن هذا الفقه، لأن الفقه لايعدو الا ان يكون معرفة تشكلت في السياقات الثقافية والحضارية للاجتماع الإسلامي عبر التاريخ، وهذه المعرفة مطبوعة بكل مااكتنف الحياة الإسلامية من اختلالات وظواهر اجتماعية وسياسية وغيرها.
وكان عجز الفقه التقليدي عن الوفاء بمتطلبات الدولة والاجتماع الإسلامي المعاصر، باعثا لانبثاق طائفة من الاسئلة الحائرة، التي ظلت غائبة قرونا طويلة.
ومنها: هل الفقه صناعة بشرية ام تشريع الهي؟ بل هل هناك تشريع الهي يحكيه الإنسان، ام ان مايكتبه الفقهاء هو تعبير عن ذاتياتهم ومكوناتهم الذهنية ومفروضاتهم وقبلياتهم ورؤيتهم الكونية؟ وهل الدين والفقه مسؤولان عن ادارة وتنظيم كل مايجري في الحياة البشرية؟ وماالذي يبقيه الدين والفقه من دور للعقل والخبرة البشرية؟ أليس نظام المعاملات الفقهي سوى امضاء وتهذ يب للمعاملات والتشريعات السائدة في المجتمع العربي عصر البعثة؟ وهل تتسع تلك الاطر التشريعية الخاصة بمجتمع بسيط لمجتمعات تجارية وصناعية تسودها الكثير من المعاملات المعقدة غير المعروفة للإنسان من قبل؟
وهكذا تبدت حيرة الفقه التقليدي عن استيعاب تطلعات الثوار، وانجازاحلامهم، وتحقيق وعودهم وآمالهم، فاستفاقت جماعة من النخب لتحاكم التراث الفقهي وتسائل اللاهوت التقليدي، وتغربل مفاهيمهما ومقولاتما، فلم تعد اقتناعاتهم الماضية يقينيات، وانما تحول شيء منها الى شكوك، وماانفك بعضهم يرزح في ارتيابه ولايقينه.
12- تنتشر في إيران عشرات الجامعات والحوزات العلمية، والمئات من مراكز البحوث والدراسات، وعدد كبير من دور الطباعة والنشر، كما تشير المعطيات الاحصائية لوزارة الارشاد في طهران الى نشر مايزيد على عشرين الف عنوان كتاب في كل سنة من السنوات الأخيرة، اضافة الى صدور حوالى عشرين صحيفة يومية في العقد الماضي، وعشرات الصحف والمجلات الاسبوعية والشهرية، والدوريات الفصلية. وهي بمجموعها تهتم بجداليات التفكير الديني، واستفهاماته القلقة، وطروحاته المتنوعة. ولايكف الصحافيون والباحثون وسائر الكتاب الذين يساهمون في تحرير تلك المطبوعات والنشر فيها عن الحوار والنقاشات الساخنة في المسائل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تتصل بصورة عضوية بمواقف ورؤى لاهوتية ودينية، تصدر عن مرجعيات تراثية في الفلسفة والعرفان وعلم الكلام والفقه والتفسير...الخ، أو مرجعيات جديدة تنتمي الى مكاسب الدراسات الإنسانية الغربية.
وربما لاتوحي لنا غزارة الانتاج الفكري بمستوى هذا الانتاج وممكناته النهضوية، من دون العودة اليه واجراء دراسات استطلاعية لمضامينه واتجاهاته، غير ان مايمكن رصده بيسر وسهولة هو وفرة الاسئلة، وتعدد المسائل المطروحة فيه، واختلاف طرائق فهمها ومقاربتها، وكثرة المناظرات على الورق، وتدفق الردود والأجوبة، حتى ان موضوع (التعددية الدينية) الذي أثاره الدكتور عبد الكريم سروش في مقالة له نشرها في احد الدوريات الناطقة بالفارسية في طهران، تحول الى مايشبه الموضة الفكرية لمدة تجاوزت العقد من السنين، فكتبت مئات المقالات والبحوث والطروحات والكتب، مختلفة أو متفقة مع رؤى سروش.
ان المثقف في إيران يظل مسكونا بهاجس اللاهوت وقضاياه، مهما كان تخصصه أومجال اهتمامه ونمط همومه المعرفية، ذلك ان الفضاء الثقافي الذي يتموضع فيه ينبض على الدوام بجدل الدين والتدين واللاهوت والواقع.
 

جداليات التفكير الديني قبل الثورة [1905 - 1979]

شغلت مفاهيم الهوية والاصالة والخصوصيات المحلية المفكرين الإيرانيين منذ مطلع القرن العشرين، وكانت الثورة الدستورية المعروفة في تاريخ إيران القريب بــ (المشروطة) لحظة حاسمة بلغ فيها الصراع ذروته بين تيارين، تبلور موقفهما في اطار رؤيتهما للهوية وصيرورتها، ونمط التعاطي مع الآخر، فبينما شدد أحد التيارين على حراسة الهوية، ومنع توظيف مكاسب الفكر السياسي الغربي الحديث، والافادة من مقولات الحريات والحقوق لديه، بذريعة تحصين الذات وتأصيلها، والحفاظ على نقائها وطهرانيتها والاقتصار على مايشتمل عليه التراث من مفهومات تتصل بالاجتماع السياسي، رأى التيار الثاني ضرورة الانفتاح على الآخر، واستدعاء خبراته، واستعارة معطيات فكره وتجارب اجتماعه السياسي، في ما يتعلق بتدوين الدستور، والتمثيل الشعبي، والتداول السلمي للسلطة... وذهب هذا الفريق الى ان المجتمع المثالي في العصر الحديث هو المجتمع المفتوح، ذلك ان انغلاق المجتمع يفضي الى تبديد طاقاته، وطمس فاعلياته، وبالتالي موته، وانطفاء جذوة الانبعاث فيه.


واستمر السجال الفكري في إيران لعشرات السنين يدور حول طبيعة العلاقة مع الآخر، وكيفية الاحتفاظ بالخصوصيات، والسبيل لأن نكون معاصرين من دون ان نفرط بأصالتنا. أي ان سؤال الهوية كان هو السؤال المحوري الذي انبثقت منه كافة الاسئلة الفرعية لسنين طويلة في التفكير الديني، وانخرط في هذا السؤال وماتفرع عنه ابرز المفكرين الى قيام الثورة الإسلامية سنة 1979.


وكان البحث دائما لدى الفريق الأول عن التمايزات الجوهرانية بين الشرق والغرب، والتوكيد على استعادة وترسيخ القيم الثقافية المحلية، من خلال استعارة المبادىء الابستمولوجية للاستشراق، واعادة توظيفها في إتجاه معاكس.


وتصاعدت وتيرة الخطاب التحريضي لهؤلاء الدارسين بعد الحرب العالمية الثانية، الا ان بعض المفكرين اتسم خطابه بالنقد المزدوج للأنا والآخر، مثل فخر الدين شادمان (1907 - 1967) الذي كان يتمتع بثقافة تقليدية وحديثة في آن واحد، وعمل أستاذاً للتاريخ في جامعة طهران للفترة (1950- 1967) وأصدر عام 1947 أهم مؤلفاته (تسخير تمدن فرنكي = احتلال الحضارة الغربية) الذي دونه باسلوب تطغى فيه الاستعارة والكنايات، وترتسم فيه التشبيهات العسكرية المتفشية في أسلوب الكتابة وقتئذ، وخلص فيه الى ان السبيل للتخلص من هيمنة الغرب يكمن في استيعاب مكاسب الحضارة الغربية، يكتب شادمان: (يمكن تشبيه الحضارة الغربية بجيش قوامه مئة مليون جندي، فكل كتاب غربي قيّم نأتي به الى إيران، وكل ترجمة صحيحة نقدمها للإيرانيين، وكل مشروع وتصميم معمل أو بناية أو ماكنة أو... نأتي به[ من الغرب] الى إيران، ونترجم مكوناته وشروحه وتفاسيره بصورة صحيحة الى الفارسية، نكون بذلك قد استطعنا أسر أحد جنود هذا الجيش الجرار وتوظيفه لخدمتنا في إيران). 


لكن مفكرين آخرين نهجوا منهجا مختلفا في بيان ماهية الغرب، وما ينبغي للمجتمع الإيراني من موقف حياله. وفي طليعة اؤلئك أحمد فرديد (1910- 1994) أستاذ تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة في جامعة طهران، والذي يلقبه تلامذته ومريدوه بـ (الفيلسوف الشفاهي) باعتباره لم يدون آراءه أو ينشرها بنفسه، ويوصف بأنه مفكر عميق، غير ان بيانه ملتبس، ولغته مبهمة مضللة. وكان ينهل من آراء الفيلسوف الألماني هايدغر، ويستند اليه كمرجعية في التعرف على ماهية الغرب، واستعار فكرة هايدغر القائلة: (ان كل حقبة من حقب التاريخ تختص بسيادة حقيقة معينة تطغى على بقية الحقائق، وتقذف بما سواها الى الهامش). 


ويقتفي فرديد اثر هايدغر في القول بروح الحقب التاريخية، وفلسفة الوجود والطبيعة الآسرة للتكنولوجيا الحديثة، فيدعو الى الانشداد للمعارف المعنوية أوالفلسفة الاخلاقية، التي يشترط فيها ان لاتخلو من الباطنية الالهية، ويؤكد ان للبشر ثلاثة أبعاد، هي: بعد علمي، وثانٍ فلسفي، وثالث معنوي، وبالرغم من ان الأول وثان احتلا مساحة واسعة في السنن الفكرية الغربية، بيد ان الثالث ظل غائباً وباهتاً بشكل فاضح. وبالتالي يسعى فرديد للقطع مع الغرب، ونبذ رؤيته للوجود، والفرار من اسلوب حياته. ويعتقد ان مناهضة الغرب تتطلب الغور في كنه الفلسفة والانطولوجيا الغربية.  وفي ضوء مفهومه للغرب صاغ فرديد مصطلحاً حساساً مشبعاً بالتحريض، لتصوير طبيعة العلاقة بالغرب هو (غرب زدكي = داء الغرب، التسمم بالغرب، وباء التغرب، نزعة التغريب). والذي استعاره في ما بعد الأديب والناقد جلال آل أحمد (1923 - 1969) التائق الى استعادة الذات، فعمل على تعبئته بحمولة ايديولوجية متوهجة، عندما اصدر كتابا بهذا العنوان سنة 1962.


وتميز آل أحمد بتوجسه الشديد من كل شيء يرمز للغرب وثقافته، وبالأخص معطيات التكنولوجيا الغربية، فهو يعتقد ان كل شيء في عالمنا تدنسه الماكنة و(يتمكنن) وحينها يجري تهشيمه ونسفه. ان كتاب جلال (غرب زدكي) نص سجالي مشبوب بالإثارة، والنقد الايديولوجي للغرب، وهو بمثابة الشعر الملحمي، الذي يعمل على تعبئة الجماهير، وإلهاب حماستها، في مناهضة كل ماهو غربي.


لكن بعد مضي ثلاثين عاما على صدور كتاب جلال راحت النخبة الإيرانية تنشد لها صورة بديلة من الغرب، صورة تحاول ان تكون اكثر حياداً وموضوعية في تقويم المكاسب المعرفية والتكنولوجية للغرب الحديث، صورة تستبعد الرؤية الخطأ التي تحسب تمام مكاسب الغرب ومعارفه ليست سوى ماكنة فقط، وتتجاهل العلوم الطبيعية، والعلوم البحتة، والعلوم الإنسانية، والآداب، والفنون، والحقوق،... وغير ذلك. فلا يصح اختزال أية حضارة في بعد واحد، ومن الخطأ عدم التمييز والخلط العشوائي بين العلم والتكنولوجيا والمعارف والفنون والآداب الغربية من جهة، والاستعمار الغربي من جهة أخرى. لابد من رؤيا نقدية تركيبية، والتحرر من الرؤيا الشمولية الاطلاقية غير الموضوعية في التعاطي مع الغرب. 


 وفي عقدي الستينات والسبعينات تواصلت الدعوة لـِ (العودة الى الذات) لدى علي شريعتي (1933- 1977) الذي استلهم افكار صديقه فرانتز فانون في (المعذبون في الأرض) واهتم بتغذيتها بروح دينية، واكتشاف جذورها الإسلامية، بدلا من الخصوصيات العرقية واللغوية والتاريخية للعالم الثالث في كتاب فانون. وشريعتي خبير في علم الاجتماع الديني ومقارنة الاديان، التحمت في شخصه عناصر الداعية والمثقف والباحث، وذابت الحدود في خطابه بين هذه العناصر، وأمسى الوجه الحقيقي للمثقف في وعيه هو الداعية، واستحالت الثقافة لديه ايديولوجيا، وعكف على (أدلجة الدين والمجتمع). يقول شريعتي: (سألني أحد رفاق الدرب: ماهو برأيك أهم حدث وأسمى انجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية ؟ فأجبته: بكلمة واحدة، هو تحويل الإسلام من ثقافة الى ايديولوجيا). 


ويبدو ان الهموم النضالية لشريعتي، وجهوده الحثيثة لأنسنة الدين، والافصاح عن مدلولاته الاجتماعية، وتقليص أسراره، وأبعاده الميتافيزيقية، وعوالمه الباطنية، هي الباعث لمسعاه في تحويل الإسلام (من ثقافة الى ايديولوجيا). ومما لاريب فيه انه كان شديد التأثر بجماعة لاهوت التحرير، ودعوتهم لتحويل الدين ايديولوجيا لمناهضة الاستعمار، وتكريس لاهوت الأرض، بعيداً عن مدارات اللاهوت الكلاسيكي.


وتكمن المفارقة في ان شريعتي الذي أعلن عن مطمحه في الانتقال بالإسلام (من ثقافة الى ايديولو جيا) تسود كتاباته نزعة تفكير حرة، ترفض المجتمع المغلق، وتدعو الى إصلاح الفكر الإسلامي، والانفتاح على مختلف الأديان والثقافات. وتحكي آثاره ذائقة فنان، وروح شاعر، وعقلية ناقد، ونزعة متمرد. ومثل هذه السمات في الشخصية يتعذر على الايديولوجيا الانسجام والتوافق معها. والمفروض ان مثقفاً كشريعتي يدرك مثل هذا التهافت، ويعي التباين بين الشخصية الايديولوجية، ووعي المثقف والناقد، وأحاسيس الشاعر، والفنان، لكن موقفه ظل مضطربا قلقا، تستحثه مشاعرالفنان الرومانسي، وتوقد أحلامه تطلعات المناضل. 


وتتضمن نصوص شريعتي هجاءً لاذعاً للغرب وما اجترحه عبر تاريخه الاستعماري في آسيا وافريقيا والاميركيتين، بالرغم من ان مرجعيته في تفكيره ودراساته مستقاة من المعارف الغربية، كمن سبقه من الدارسين الذين تبرموا من الغرب وممارساته، في الوقت الذي استلهموا معارفه ولغاته ورؤاه.


وفي الفترة ذاتها التي شغلت الجامعات والنخب الآراء الإحيائية لشريعتي، وتغلغلت أفكاره في الأوساط الشعبية، برز في إيران مفكر آخر، وهو سيد حسين نصر (1933- ) الذي يتحد مع شريعتي في غاياته الاحيائية وأيضا يدعو للعودة الى الذات، ويرى ان أعظم خطايا عصرنا تتمثل في (تمرد الإنسان على الله... وانفصال العقل عن نور العقل الهادي... وتراجع الفضيلة).  ويوجز رؤيته قائلاً: (إن كنت مضطراً لتلخيص ما يسمى رؤيتي الفلسفية، فأقول: أنا من أتباع العقل الخالد، وكذلك الحكمة الخالدة، أي ذلك العقل السرمدي الذي كان دائماً وسيظل إلى الأبد...). 


ومثلما كان شريعتي رمزا لجيل من المستنيرين الدينيين، فان نصر كذلك. غير ان شريعتي يفتقر الى الخبرة المعمقة بالتراث ومسالكه، ويعوزه الاطلاع العلمي الشامل على المعارف التقليدية، لأنه لم يصب تعليماً دينيا في الحوزات العلمية.


خلافاً لحسين نصر الخبير المتمرس في الفلسفة والعرفان وطائفة من المعارف التقليدية، ذلك انه أصاب تعليماً متميزاً على يد علماء مشاهير، كالعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي وغيره.ولعل ذلك كان من دواعي تبادل الاتهامات بينهما، إذ يصف حسين نصرشريعتي بأنه (ماركسي غوغائي يحاول التغلغل في التيار الديني)، أما شريعتي فيصف نصر بأنه (مستنير رجعي يسكن برجاً عاجياً). وبلغت الأزمة بين الاثنين أوجها حدود سنة 1970 لما استقال حسين نصر من عضوية هيئة حسينية الإرشاد، احتجاجاً على محاضرة لشريعتي قارن فيها بين الإمام الحسين (ع) وجيفارا. واشتهر حسين نصر بمواقفه المناهضة للحداثة، وتنديده العنيف بها. وكتاباته عن (أزمة الحداثة... وعبثية التطور وسوء مغبته) بالتوكؤ على آراء المتصوف الفرنسي رينيه غنون.  وكان داريوش شايغان (1935- ) أحد زملاء حسين نصر، ممن جمعت بينهما الحلقة النقاشية للسيد محمد حسين الطباطبائي وهنري كوربان، وانخرطا معا في هموم فكرية مشتركة، فيما يتصل بالميراث الميتافيزيقي والآفاق المعنوية للتشيع، وان كان شايغان قد عادل اطلاعه على الفلسفة الغربية باطلاع مماثل على المعتقدات الهندية والفلسفات المتوطنة في آسيا. وأثار كتابه (آسيا در برابر غرب = آسيا في مقابل الغرب) اهتماما بالغا، فقد ذهب فيه الى (ان مسار الفكر الغربي كان باتجاه التقويض التدريجي لجملة معتقدات شكلت التراث المعنوي للحضارات الآسيوية ).  ويرتكز رأي شايغان هذا على التفاوت الانطولوجي بين الشرق (الاسلام، البوذية، الهندوسية) والغرب، فجوهر الفلسفة والعلم في الحضارات الشرقية يختلف جوهريا عن نظيره الغربي، ذلك ان نمط التفكير الفلسفي الغربي عقلاني، اما الفلسفة الشرقية فترتكز على المكاشفة والايمان. 


الا ان شايغان قام بمراجعة نقدية لأفكاره في مرحلة لاحقة، واعترف بأنه تحسر على حضارات تقليدية كانت في طريقها الى الافول، في كتابه السابق (آسيا في مقابل الغرب). ودعا الى التحرر من الرؤية الثنائية للحضارات الشرقية والغربية، والتخلص من النظر اليها بوصفها مختلفة متقابلة جغرافيا وثقافيا. لقد عاد شايغان بعد عقد من الزمان لنقد أفكاره الماضية في كتابه (آسيا في مقابل الغرب) في كتاب جديد صدر بالفرنسية سنة 1989 بعنوان (النفس المبتورة : هاجس الغرب في مجتمعاتنا).


وميزة شايغان انه مفكر يدمج العقل بالروح، والذهن بالقلب، و المشاعر بالأفكار، والبرهان بالحكمة والشعر، ويثري كتاباته بمزيج من مفاهيم متنوعة، تختلف مواطنها، فشيء منها يعود الى ديانات آسيوية، وشيء آخر إلى العرفان التصوف، فيما يعود شيء ثالث الى تيارات الحداثة ومابعد الحداثة في الفكر الاوروبي، لكنه يصوغها في توليفة منسجمة متسقة، ويثريها دائما بتأويلات ونظرات حاذقة.



جداليات التفكير الديني بعد الثورة [1979- 2005]

يمكن اعتبار انتصار الثورة وقيام الدولة الاسلامية اللحظة الحاسمة في مسار وتحولات التفكير الديني في ايران، فقد تغيرت الأولويات الفكرية، وتراجعت طائفة من المسائل التي ظلت لعشرات السنين عناوين ضجة في التفكير الديني، حين تصدرت مسائل غيرها، لم تكن قبل الثورة من الشواغل الفكرية، بل لم تتعاطَ معها اجيال من المفكرين والباحثين المهتمين بالدراسات الاسلامية.  فجأة انبثقت هموم جديدة، وجرى تداول موضوعات خطفت الأضواء عاجلا، بينما انزوت الموضوعات الساخنة المعروفة قبل ذلك، فلم تعد قضية الهوية والخصوصيات المحلية والعلاقة بالآخر تحتل الصدارة في التفكير والكتابة، وانما اضحت قضايا الدولة الدينية والدولة المدنية، والمجتمع الديني والمجتمع المدني، ومصدر مشروعية السلطة، وماهية وحقيقة الدين، وأشكال التدين، ومنشأ النزعة الدينية، وبواعث التدين، وتاريخية المعرفة الدينية، والتعددية الدينية، وجوهر وصدف الدين، والذاتي والعرضي في الدين، والدين وتطلعات الانسان، أو ما الذي يترقبه الانسان من الدين وما الذي يترقبه الدين من الانسان، ومجالات الدين وحقوله وحدوده في الحياة البشرية، وعلاقة الدين بالايديولوجيا، والدين بالأخلاق، ولغة الدين، وهل هي لغة عرفية أم بيانية أم رمزية، وامكان فهم الدين من دون الاعتقاد به، والتجربة الدينية وآفاقها وتجلياتها وأبعادها، وجداليات الدين والعلم، والدين والعقل...  وغير ذلك.


وسادت عناوين بديلة، وطغى سجال مختلف في الحياة الثقافية، وظهر مفكرون يتسلحون بمناهج تستند الى فلسفة العلم، والهرمنيوطيقا وعلوم التأويل الراهنة، ولايخشون استعارة مفهومات اللاهوت الغربي الحديث، وتطبيقها في دراسة النص والتراث وأنماط الخبرة الدينية. وتعرضت المعارف التقليدية الى مراجعات من منظار نقدي تحليلي، يغور الى الجذور، ويبحث عن الخلفيات، ويهتم باكتشاف الانساق المعرفية، وتفكيك العناصر والاسس وغربلتها.  فمثلا في الحقل الفقهي لم تقتصر الدعوة على تحديث مناهج الاجتهاد، وتوظيف مقاصد الشريعة في الاستنباط، وانما ولدت محاولات لبناء علم في موازاة اصول الفقه ومقاصد الشريعة، اصطلح عليه بعض الباحثين فلسفة الفقه.يطمح هذا العلم لبيان الهوية التاريخية والاجتماعية للفقه، واكتشاف العناصر الراقدة خلف عملية الاستنباط، من مسلمات وفرضيات وقبليات ورؤى كونية ومبان، تتنوع بتنوع تجارب الاستنباط، وطبيعة الفضاء المعرفي الذي تتمخض داخله تلك التجارب. وتسعى فلسفة الفقه لتفكيك نسيج الفقه، والكشف عن طبيعة المعارف الخفية المستترة في بنيته، وتهتم بتشخيص مايطبع المعرفة الفقهية، وما تتلون به من رؤية الفقيه الكونية وثقافته، ومحيطه الخاص، اي انها تغامر باجتراح اسئلة كانت غائبة من قبل.


وتبلور في دراسة اللاهوت اتجاه يدعو الى تجاوز علم الكلام الكلاسيكي، وصياغة علم كلام جديد، يغلب عليه الطابع الابستمولوجي (المعرفي) التبييني، ويتحرر من النزعة الدفاعية، وينفتح على الجغرافيا الراهنة للمعرفة البشرية، ويتعاطى مع نتائجها بلا وجل، ويعيد رسم الهندسة المعرفية للمسائل الكلامية بنحو مغاير لما مضى، ويستوعب طائفة من الموضوعات الجديدة في اطار هذه الهندسة المعرفية، ويرتكز على سائر معطيات ومناهج العلوم الانسانية الحديثة، من أجل توظيفها في البحث والدراسة، ويتمرد على اشكال القياس الأرسطي الموروثة.


الا ان الكثير من الانتاج الفكري الراهن في ايران يطبعه المنظار النقدي التفكيكي التحليلي، ولم يتسلح بمنظار نقدي تركيبي. انه يبرع في عمليات التقويض والهدم، من دون ان ينتقل الى بناء رؤية او مرتكزات منهاجية لمواقف معرفية اخرى. ولعل ما يبرر ذلك له ان الفكر الحديث بطبيعته فكر نقدي، لا يكف ابدا عن التساؤل، ويهمه اثارة الاستفهامات قبل البحث عن الاجوبة، والرؤيا دائما تنبثق في فضاء النقد والتساؤل.

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East..

 السبت 11 أيار 2024 - 6:24 ص

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East.. Armed groups aligned with Teh… تتمة »

عدد الزيارات: 156,607,411

عدد الزوار: 7,034,977

المتواجدون الآن: 71