من التاريخ: الخوارج والدولة في الإسلام..

تاريخ الإضافة السبت 9 آذار 2024 - 5:08 ص    التعليقات 0

        

من التاريخ: الخوارج والدولة في الإسلام..

الشرق الاوسط..د. محمد عبد الستار البدري..

التقى جمع من المتشددين بشخص يُدعى عبد الله بن خباب، ومعه زوجته الحامل، وفي رقبته مصحف، فسألوه عن رأيه في علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، فامتدح الرجل عليًّا، فقالوا له: «إن الذي في عنقك (المصحف) يأمرنا بقتلك»، فقتلوه على الفور ومعه زوجته وبقروا بطنها تحت ستار التقرب إلى الله سبحانه وتعالي. وقد كانت هذه الواقعة فاتحة صراع مرير بين الدولة الإسلامية والمتطرفين من الخوارج الذين برروا قتل الأبرياء ما لم يكونوا على خطهم السياسي والديني، بل الأغرب من ذلك أنهم آمنوا بأنها وسيلة للتقرب للمولى عز وجل، فلقد كانوا فرقة إسلامية ضالة متشددة خرجت عن أصول الدين، ولكنها كانت ظاهرة متكررة بأشكال مختلفة في التاريخ الإسلامي، شأنها في ذلك شأن كل الأديان الأخرى التي واجهت حركات تطرف تحت شعار الدين، بسبب عدم فهمهم الصحيح لأصوله وأهدافه ومبادئه.

ترجع نشأة الخوارج إلى العام السابع والثلاثين الهجري عندما دب الصراع بين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فلقد رفض الأخير خلافة الأول مطالبًا إياه بدم الخليفة الثالث الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي قتل على أيدي الثوار في المدينة، وعندما التقى الجمعان في معركة «صفين» الشهيرة كاد عليٌّ يحسم الأمر لصالحه، حسبما تورد المصادر التاريخية الإسلامية، وهو ما دفع جيش معاوية لرفع المصاحف على أسنة الرماح مطالبين بتحكيم كتاب الله بين المتنازعين، وقد رأى علي أنها خدعة من معاوية ومعه عمرو بن العاص، فأمر قائده «الأشتر» بالاستمرار في الحرب غير مدرك أن فصيلا لا بأس به من جيشه قد اقتنع بهذه الفكرة، وعلى رأسهم الأشعث بن قيس الكندي، حيث أرغموه على قبول التحكيم. وقد حاول علي إثناءهم بشتى الطرق دون جدوى، حيث أصروا مهددين إياه بأن يفعلوا به مثلما فعلوا مع ذي النورين عثمان بن عفان، فاضطر علي مرغمًا لقبول التحكيم، ولكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوه بعصيان الخليفة مرة أخرى بإصرارهم على ألا يبعث بعبد الله بن العباس ممثلا له في التحكيم، وفرضوا عليه شخصية غير مُسيسة هو أبو موسى الأشعري، الذي لم يكن كفئًا لداهية العرب عمرو بن العاص الذي مثل معاوية بن أبي سفيان، فكانت نتيجة التحكيم خلع علي عن الخلافة وإصرار عمرو بن العاص على تثبيت معاوية، ومن بعد ذلك بدأ صراع الإمام علي مع الخوارج ومعاوية مرة أخرى بعدما رفض خديعة التحكيم.

واقع الأمر أن التحكيم كان حادثا حاسما في تطور التاريخ السياسي الإسلامي، فلقد فتح الباب على مصراعيه أمام ظهور مفاهيم كانت جذورها قد بدأت تنبت، أو لظهور مفاهيم وفرق جديدة تتمحور أغلبها حول رؤيتهم لمفهوم الشرعية في نظام الحكم الإسلامي، فبعد التحكيم نجد الظهور الأساسي للخوارج من مجرد أفكار وبعض السلوكيات الفردية غير المنظورة سياسيا، إلى فريق سياسي ديني متطرف، ويعقب ذلك ظهور المرجئة، وتبعهم التشيع بمدة غير طويلة بوصفه قوة سياسية.. وهلم جرا. ولعل الخوارج كانوا أخطر هذه الفئات على الإطلاق بسبب تطرفهم الديني والسياسي، وسلوكهم الدموي الناتج عن التأويل الخاطئ للإسلام وسماحته، فلقد كانت فرق الخوارج هي التي أرغمت علي بن أبي طالب على قبول التحكيم في الأساس، وعندما قبل الرجل مرغمًا ووقع على العهد مع معاوية، عادوا ورفضوا التحكيم، مشيرين إلى أنهم ارتكبوا الذنب وكفروا، مما استوجب التوبة والعودة للإيمان برفض التحكيم من أساسه ومواجهته سياسيا وعسكريا، ونصوص مناظرتهم مع الإمام علي كرم الله وجهه واردة بالتفصيل في كتب التاريخ من الطبري إلى الإمام ابن كثير. وبهذا يمثل الخوارج ظهور أول طائفة تدعو بشكل واضح وممنهج وواسع إلى مفهوم التكفير، من داخل العباءة الإسلامية ذاتها. وقد تضمنت عقيدة الخوارج، خاصة الغلاة منهم وعلى رأسهم الأزارقة من أتباع نافع بن الأزرق، عددا من المبادئ الأساسية التي لم يتخلوا عنها؛ أولها خروج معارضيهم عن الدين الصحيح ومن ثم كُفرهم، كما أن من مبادئهم أيضا وجوب الخروج على الحاكم الجائر، والخروج هنا لا يكون إلا باستخدام القوة لتغيير الأمر، مستندين في ذلك إلى الآية الكريمة: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، وهم في معتقداتهم يرون أن الإمامة يمكن أن تؤول إلى أي شخص مسلم ورع يعرف كتاب الله وليس بالضرورة من قريش أو بطونها، كما أنهم يكفرون أيضا مرتكب الكبيرة في ذلك، ولكن أخطر ما ميزهم أيضا هو اقتناعهم بأن أطفال ونساء هؤلاء الكفرة يجب قتلهم أيضًا، مستبيحين بذلك الروح التي حرم الله إزهاقها إلا بالحق، بما في ذلك الأطفال لدى بعض هذه الفرق.

وإذا كانت هذه الفرقة قد ظهرت بشكل واضح خلال التحكيم وما تبعه من أحداث، فإنها لم تكن لديها المنعة السياسية والفكرية، وسرعان ما انقسمت إلى فرق مختلفة على رأسها الأزارقة، ثم النجدات من أتباع نجدة بن عامر، والإباضية.. إلخ. وعلى الرغم من وجود اختلافات فكرية وسلوكية واضحة بين هذه المذاهب، فإن أخطر هذه الفرق في التاريخ الإسلامي كانت المتشددة منها، التي مثلت شوكة كبيرة في حلق الدول الإسلامية المتتابعة، سواء الخلافة الراشدة ممثلة في علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أو من بعده الدولة الأموية، ومن بعدها الدولة العباسية، كما سنرى. وقد أورد العلامة الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» بعض مبادئهم، خاصة مسألة تعاملهم مع الحاكم الجائر ومن يرون فيهم خروجا على الدين، فبعضهم، على سبيل المثال، يرون عدم الخروج على الحاكم، وهم قلة منهم آنذاك، وإن كان أكثرهم يرى ضرورة الثورة على الحاكم. ويجيز البعض الآخر مبدأ «التقية»، ولكن كثيرا منهم يرفضها تماما. ويرى آخرون منهم عدم كفر مرتكب الكبيرة ولكن يطبق عليه الحد فقط، وهم ليسوا الأغلبية. كما يتفق أغلبهم على وجوب الإمامة، أي ضرورة وجود سلطة سياسية ممثلة في الإمام العادل، بينما يرى فريق غير كبير منهم آنذاك وعلى رأسهم «المحكمة» أي الذين ينادون بعدم وجود حكم إلا لله، و«النجدات»، نسبة إلى نجدة بن عامر، أن الإمامة غير ضرورية في حالة ما إذا استطاع المجتمع أن يطبق شرع الله وحدوده. ولقد جاء أول صدام معهم خلال خلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وقد تعامل معهم هذا الإمام الورع بالحوار في بادئ الأمر، متخذا بذلك مسلكا لم تتبعه أغلبية السلطات المركزية الإسلامية التالية لأسباب مفهومة ومرتبطة بسطحيتهم الشديدة وتفسيرهم الضيق للغاية لنصوص القرآن الكريم. وعندما أصر الخوارج على تكفيره بسبب قبوله التحكيم، رفض علي أن ينقض عهده مستندا إلى قوله تعالي: «وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها»، فما كان منهم إلا أن اعتزلوه وتوجهوا إلى منطقة تسمى «حروراء» وأمّروا على أنفسهم قائدا خطب فيهم يحثهم على الجهاد في سبيل الله مؤكدًا أن «المتاع بهذه الدنيا قليل، وأن الفراق لها وشيك، فلا تدعونّكم زينتها.. ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم»، وقد كان الحق عندهم الخروج على الخليفة كرم الله وجهه وهو أقرب الأقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول المؤمنين مع أبي بكر الصديق، والذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: «أنا مدينة العلم وعلي بابها».

وهنا يجب إبراز نقطة محورية، وهي أن ظاهرة الخوارج يجب عدم إقرانها بفترة حكم الإمام علي كرم الله وجهه أو سياساته، فهي حركة متشددة كانت لتظهر تحت أي ظرف من الظروف لارتباط نشأتها بفئة ضالة كما قال عنهم كرم الله وجهه: «أصابتهم فتنة فعموا فيها»، فهم فئة أصرت على التشدد والتطرف وعدم الاحتكام إلى روح الدين ووسطيته، فوجبت محاربتهم، ولذلك حاربهم الإمام علي كرم الله وجهه في معركة «النهروان» الشهيرة وقضى على فصيل كبير منهم، فيقال إنه لم ينج منهم إلا 10 أفراد تقريبا بينما قتل من جيش علي ما لا يزيد على الـ10. وإن كنا نرى وجود بعض المبالغات في هذه الأرقام، ولكنها كانت هزيمة ساحقة لهم. وبعد هزيمتهم تشتتوا في العراق وغيره من الأمصار، ولجأت فرقة منهم إلى ترتيب عمليات اغتيال سياسي بمحاولة قتل معاوية وعلي وعمرو بن العاص، فلم تنجح إلا عملية اغتيال الإمام علي كرم الله وجهه فقط، وهي بذلك أقرت مبدأ الاغتيال بوصفه أداة سياسية لتصفية خصومها، مضيفة بذلك داء إضافيا في قائمة مصائبها.

ويلاحظ بشكل أساسي في هذه الفرقة أنها لم تشمل في صفوفها أي شخصية ذات شأن في التاريخ الإسلامي أو من لها السبق في الإسلام، فإذا كان الصحابة قد اختلفوا في أمور كثيرة ووقعت الفتنة أو الحرب الأهلية بينهم، فإن أحدا منهم لم يظهر في معسكر هذه الفرقة الضالة، وهو ما يعكس عددا من الحقائق الأساسية؛ منها أن مريديها كانوا من بسطاء الفكر السطحيين، معدومي الثقافة والخبرة، محدودي الرؤية، وهذه العوامل عندما تجتمع تكون كفيلة بميلاد فكر وسلوك متطرفين، كما أن هذه الفئة الضآلة لم تنجب أي مبدع أو مفكر أو مفسر أو أي قيمة فكرية أو اجتماعية إضافية، وهو أمر منطقي ومفهوم بالنظر للتركيبة المتطرفة لها، وهي الفرقة التي ينطبق عليها بكل تأكيد تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمثالهم بحديثه: «يا أيها النَّاس إيَّاكم والغلوَّ في الدِّين؛ فإِنَّما أهلكَ من كان قبلكم الغلُوُّ في الدِّين».

وحقيقة الأمر أنني لا أجد ما أختم به إلا العبارة العظيمة لابن قيم الجوزية ردا على هذا التطرف والتجاوز في حق الدين بمعناه الواسع، التي يقول فيها «...إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها». رحم الله ابن القيم؛ فما أشبه اليوم بالبارحة.

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East..

 السبت 11 أيار 2024 - 6:24 ص

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East.. Armed groups aligned with Teh… تتمة »

عدد الزيارات: 156,516,478

عدد الزوار: 7,031,335

المتواجدون الآن: 78