الصحوة الأسلامية آفاق وتحديات
الصحوة الأسلامية آفاق وتحديات في العدالة الأجتماعية لسيد قطب:تقوم نظرية الحكم في الأسلام على اساس شهادة أن لا اله الا الله,ومتى تقرر ان الألوهية لله وحده بهذة الشهادة تقرر بها أن الحاكمية في حياة البشر لله وحده عن طريق تصريف امرهم بمشيئته وقدره من جانب وعن طريق تنظيم اوضاعهم وحياتهم وحقوقهم وواجباتهم وعلاقاتهم وارتباطاتهم بشريعته ومنهجه من جانب آخر,في النظام الأسلامي لا يشارك الله سبحانه احد لا في مشيئته وقدره ولا في منهجه وشريعته..وبناء عليه لا يمكن ان يقوم البشر بوضع انظمة الحكم وشرائعه وقوانينه من عند انفسهم,في هذة القاعدة يختلف نظام الحكم الأسلامي في اساسه عن كل الأنظمة التي وضعها البشر في ذلك نظام الحكم والأجتماع,تقوم سياسة الحكم في الأسلام على اساس من الضمير فوق قيامها على اساس من التشريع في أن الله حاضر في كل لحظة مع الحاكم والمحكوم,قامت دعوة الأسلام على مخاطبة العقل والضمير والوجدان وتجردت من وسائل القهر,الأسلام عقيدة عالمية ودين عام يفيض على الأنسانية جمعاء,وانه دائماً تقف له بالمرصاد قوى ظالمة مستكبرة فلا تسمح لدعاته الأنتشار في الأرض,ليكشفوا للناس حقيقة هذا الدين الذي لا بد له هو الآخر ان يزيل قوى الظلم والطغيان ليشيد صروح العدل المطلقة ويخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة رب العباد,فتوح الأسلام لم تكن غزواً بالعنف ولا استعماراً للأستغلال الأقتصادي انما ازالة للمعوقات التي تحول دون الشعوب وعقيدة الأسلام,وفي فترات معينة تتوقف الحياة الأسلامية في انحاء من الأرض فيشعر البعض ان الأسلام ذاته قد توقف مما يتطلب استئنافاً جديداً يطلق عليه الصحوة والتجديد في اطار الثوابت والأسلام لا يقوم في الضمير عقيدة ولا في واقع الحياة ديناً الا ان يشهد الناس"أن لا اله الا الله محمد رسول الله"حاكمية تتمثل في قضائه وقدره وفي شرعه وأمره,ان فطرة الله التي فطر الناس عليها لن تلغيها محاولات الأستعمار الصليبي والصهيوني وان المستقبل للأسلام بحفظ الله له وسنده التاريخي الطويل ووجوده الفطري الأصيل, ونشير سريعاً الى اهم الصدمات التي واجهت هذا الدين من قيام الدولة الأسلامية في العصور اللاحقة باعتمادها على عناصر حديثة العهد بالأسلام بما يعتمل فيها من عصبيات لا تزال جزورها كامنة ,الى غزوات التتار المدمرة ولنا ان نعلم ان الأمبراطورية الرومانية التي بنيت في الف عام انقرضت في قرن واحد,وفي تتبعنا للصدمات نصل للأندلس بعد صدمة الحروب الصليبية ولكن الكارثة كانت في العصر الحديث حين غلبت اوروبا على العالم وامتد استعمارها الصليبي نحو العالم الأسلامي كله,وارصد لقتل الروح الأسلامية كل قواه مستمداً دفعه من عداء موروث وقوة مادية وثقافية مضادفاً اليها تضعضع داخلي في قوة الأمة الأسلامية لأبتعادها عن تعاليم دينها,ورغم ذلك العجيب أن روح الأسلام على الرغم من جميع هذة الصدمات التي احالت بعض ممن يحملون اسماء المسلمين ادوات هدم وتحطيم للأسلام في ايدي المستعمرين على الرغم من هذا كله ظلت روح الأسلام في ذاتها سليمة وظلت طاقته الكامنة تؤثر في مجرى الحياة الأنسانية بصفة عامة وتؤثر في صوغ السياسات العالمية وتوجهها منذ ما ينوف عن الأربعة عشر قرناً الى اليوم فما من حركة سياسية او حربية في العالم الا ويحسب فيها للأسلام حساب حتى في عصور الضعف والفرقة وتخلخل الحياة الروحية والأجتماعية والأقتصادية في العالم الأسلامي,اليوم انقضت فترة الخمول والأضمحلال واخذ المد الأسلامي بعد جذر في الظهور في كل مكان على الرغم من الضربات الساحقة التي توجه الى طلائع البعث الأسلامي في كل مكان وهي مظاهر لا يمكن اغفالها ان استئناف حياة اسلامية جديدة هي اليوم قيد التبلور وعلى الرغم من ايماننا المطلق بحتمية استئناف الحياة الأسلامية في العالم الأسلامي تمهيداً ليكون نظاماً للعالم الا ان هناك عراقيل شتى وضخمة كما ان هناك اعمال عظيمة يجب ان تتم وليس يكفي ان يبعث المرء بالصيحة المدوية في حماسة فواره ليصبح الأمل واقعاً,خاصة اننا لا نعيش في هذا العالم وحدنا بل تشابك مصالح وقضايا وسيطرة عولمة ذات عقلية مناقضة تماماً للأسلام هذا يعني ان العودة للنظام الأسلامي عمل جليل وضخم دونه التضحيات الجسام,من المفيد الأشارة الى ان الحضارة الغربية قادت العالم لحروب متتالية لا تنقطع اهمها الحربين العالميتين وقسمت العالم الى شرق وغرب والى تهديد دائم بحرب ثالثة واضرابات في كل مكان وجوع وقهر واستبداد وفساد ليصبح النظام العالمي المعاصر في حالة تفكك واضطراب يبحث عن اسس جديدة ينقب عن زاد روحي يرد الى الأنسانية ثقتها بمبائها,الأسلام وحده هو القوة الحقيقية التي تقف لقوة الفكرة المادية التي تدين بها اوروبا وامريكا وروسيا والصين..الأسلام وحده الذي يتضمن التصور الكلي المتناسق عن الوجود والحياة ويقيم التكافل الأجتماعي في المحيط الأنساني مقام الصراع والتطاحن ويجعل للحياة قاعدة روحية تصلها بالخالق في السماء وتسيطر على اتجاهها في الأرض,يبدو جلياً ان الصراع الأزلي سيكون بين الأسلام الذي يجعل العبودية لله وحده وبين سائر الأنظمة الأرضية التي تقوم على اساس من عبودية العباد للعباد, البعثة المحمدية صحوة البشرية الكبرى وبالحديث عن الصحوة التي تأتي بعد غفلة كان اعلان فضل البعثة المحمدية فريداً في تاريخ الرسالات والديانات قال تعالى"وما ارسلناك الا رحمة للعالمين"هذا الأعلان فريد من نوعة جاء في كتاب خالد قدر الله سبحانه له ان يتلى في كل مكان وزمان هذا الأعلان الخارق للصحوة الكبرى لا يمكن المرور به مرور الكرام مساحته تحوي جميع الأدوار والأجيال بشموله وعظمته وسموه وخلوده يقف امامه الفكر الأنساني بخشوع,لا يوجد في تاريخ الأديان والنحل والحضارات والفلسفات والمحاولات الثورية والحركات الأصلاحية بل في تاريخ العالم ومكتبة الأنسانية مثل هذا الأعلان المحيط بالكون كله ويكفي أن المعلن هو الله سبحانه.إذاً بعثة النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم اعظم صحوة في الزمان والمكان وعلى ذلك النهج سار الخلفاء الراشدون ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم بصحوات وتجديد الى يوم الدين والتي تكون بالرؤية الصالحة “الخلفاء الراشدون صحوة دائمة على نهج النبوة: ابو بكر الصديق والفاروق عمر وذي النورين عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب كرم الله وجه ورضي الله عنهم أجمعين بل أن الكثير من العلماء من اتبع عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز حفيد الخليفة الثاني الى جملة الفترة الذهبية الراشدة كخامس الخلفاء وأن مجمل فترة الصحوة الدائمة تلك على نهج النبوة مؤتلفة ومنفردة فإن الأحاطة بها معجزة كأعجاز أعجازها ومجرد مقاربتها يحتاج الى بحوث وبجوث”. “ثورة الحسين” شكلت ثورة الحسين عليه السلام صحوة مفصلية في تاريخ الأسلام والبشرية باهدافها العظيمة المراد من (هدف)الأمام الحسين عليه السلام في واقعة كربلاء هي الغاية التي كان ينبغي بلوغها وتحقيقها وأن طال الزمن والتي بادر بثورته تلك من اجلها واستشهد في سبيلها نقدم فيما يلي مسرد بتلك الأهداف المقدسة كما يلي:1"-احياءالأسلام 2- توعية المسلمين 3- احياء السنة النبوية 4- اصلاح المجتمع واستنهاض الأمة 5- انهاء الأستبداد على المسلمين 6- تحرير ارادة الأمة من القهر والتسلط 7- اقامة الحق وتقوية اهله 8- توفير القسط واقامة العدالة الأجتماعية وتطبيق حكم الشريعة 9- ازالة البدع والأنحرافات 10- انشاء مدرسة تربوية واعطاء المجتمع شخصيته ودوره" فلننظر الى قول الأمام "انما خرجت لطلب الأصلاح في أمة جدي,اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر واسير بسيرة جدي وأبي علي بن ابي طالب". ولما كان بحثنا يتعلق بالصحوة الأسلامية المعاصرة فأنه بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية سنة1924م تقاسمت الدول الأستعمارية تركتها وامعنت في تمزيق الوحدة الأسلامية بطرق ووسائل شتى حتى اشتهرت المنطقة بصراع النظريات,ووقع العالم الأسلامي تحت الأستعمار الغربي ولكن علماء الأمة اشعلوا نار الثورة بالجهاد ولا زالوا,فلم يلبث الأستعمار مباشرة الى المدة التي ارادها فخرج لكنه لم يفعل الا بعد ان امن بدائله من ابناء جلدتنا يقدمون له فروض الطاعة بثمن الأستمرار فوق المنصة,فراح المرتبطون به من حكام ومحكومين يتابعون عملية سلخ الأمة عن حضارتها بغرس افكار وعادات ومصطلحات بدع دخيلة في الأفكار والسلوك فدخلوا سوياً جحر ضب فأستحال التفريق بينهما,كل ذلك لتطويع الأسلام والمسلمين,فشهدنا افراطاً في شعارات منتفخة لدى من بدلوا سروج ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة الى سمسرات وتفريطاً,كما يقول نزار قباني ذهبنا للتفاوض دون حزاء وكرامة, وانقسم العالمين العربي والأسلامي بين كتلتي الحداثة الغربية بنمطيها اليساري الملحد والرأسمالي التلمودي المتوحش"شيوعية ورأسمالية"وذهبت استقلالية الأمة العقائدية والتشريعية,ولما كان الأسلام هو القوة الحقيقية التي يحسب لها الحساب بقي أن يعرف اصحاب الأسلام هذة الحقيقة وأن يقيموا خطتهم على هذا الأساس,والحركات الأسلامية اليوم على مفترق طرق ونقطة البدء في الطريق الصحيح هي تبين الشرط الأساس لوجود الأسلام من عدمه,ولا يخيفك هذا الأعلان الخطير أن الأسلام قد توقف فيتعاظمك الأمر فتحجم عن رؤيته والجهر به وأن تعلم انها تستهدف اعادة انشاء الأسلام من جديد هذا طريق والآخر أن تظن الحركات الأسلامية لحظة واحدة أن الأسلام قائم وأن الأوضاع العلمانية السائدة في الأرض هي اوضاع اسلامية بفعل العادة وطول التعايش,هذا طريق وذاك طريق,وحركاتنا في ذلك على مفترق طرق فإن سارت على صراط الله وهداه وانها تستهدف ما استهدفه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة الأولى وانها ستلقى مثلما لقوا من الأضطهاد والتعذيب والصبر والمصابرة ثم النصر والتأييد والتمكين في الأرض في نهاية المطاف ان الحركات الأسلامية اليوم تتناثر اليوم على وجه الأرض كلها وتقتحم على الصليبية والصهيونية عرينها في قلب امريكا واوروبا وآسيا وافريقيا وقبل هذا وذاك في فلسطين كما في لبنان والعراق وافغانستان..على رغم كل ما رصدته لها الصليبية والصهيونية من الأجهزة والأوضاع التي تحاول سحقها والا فالبديل طريق مستر"دبليو بوش"وضرباؤه والمخدوعون به والمخادعون وراء سراب تلوح لها فيه من بعيد"عمائم"تحرف الكلم عن مواضعه وتشتري بآيات الله ثمناً قليل وترفع رايات الأسلام على مساجد الضرار وتضع لافتات اسلامية على معسكرات الفجور والأنحلال,الأنقسام في العالم الأسلامي ممنوع شرعاً وفي ظل الصحوة الأسلامية المباركة في العقود الأخيرة بين المسلمين في العالم الأسلامي الناشئة من رحم الحركات الأسلامية ونشطاء العلماء المسلمين والدعاة من الأفراد والجماعات وجب على علماء الأمة ومفكريها أن يضعوا تصوراً واضحاً في كيفية التعامل مع الواقع الجديد كي لا يبقى المسلمون وقوداً مستمراً لصراعات الاخرين يحاربون بالنيابة عنهم كما كان العرب في الجاهلية قبل الأسلام يضربون رقاب بعضهم البعض لسبب او دونه بعضهم يعمل للوثنية كالمناذرة وآخرون للنصارة كالغساسنة وآخرون لليهود كما في حروب الأوس والخذرج في المدينة,في العصرالحديث تناوب المعسكران الشرقي بقيادة الأتحاد السوفياتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على استهداف الأسلام والمسلمين فنقسمت دولنا كأتباع لهذا وذاك وكلاهما يستهدف الأسلام والمسلمين فأعملت انظمت الأستبداد العربي والأسلامي السيف والقهر والقتل والسجن والنفي بكل من يحمل عقيدة الأسلام من الحركات والأفراد والجماعات وبلغ بكلا النهجين التحالف ولو مع الشيطان ضد الأسلام وبنيه فأقموا للرأسمالية والأشتراكية والعلمنة بل والزندقة صروح وجربوا كل النظريات الوضعية دون الأسلام فما زادتهم الا وهنا وليصل الناس الى نهاية المطاف في ادراك طريق العزة الوحيد للأمة الذي لم ولن يكون الا بالأسلام الحديث عن الصحوة الإسلامية، يأخذ مجاله الكبير في حركة الفكر المعاصر على مستوى النظرية والتطبيق، ليطرح تساؤلات كثيرة حول القضايا العامة التي أثارتها هذه الصحوة في عالم الإنسان، من حيث العناوين التي طرحتها في الساحة، ومن حيث المشاكل التي أثارتها، أو التحديات التي واجهتها، أو النتائج التي وصلت إليها. فهل استطاعت هذه الصحوة أن تنقل الإنسان إلى عالم جديد تختلف معطياته الفكرية والسياسية والاقتصادية عن المرحلة التي سبقتها، فتتبلور له قضاياه في مسألة الحرية أو العدالة، وتمنحه الأصالة في حركته نحو التوازن في حركة وجوده. وهل تمكنت من إثارة مسألة الظلم المنتشر في الأرض لتتحدث عن كيفية مواجهته وتحريك قضية العبودية لتثير الفكر عن نوعية السيطرة عليها، وعن مسألة الجهل وطبيعة حلها وموضوع التخلف، لتبحث عن إمكانات الخروج منه.. وهل كانت في مستوى التحديات التي يفرضها الفكر الآخر أو الواقع المضاد..؟؟ وهل وصلت إلى بعض النتائج الحاسمة في حركة الأهداف؟ وهل استطاعت أن تكون البديل عن كل الواقع المسيطر على العالم؟ صورة الصحوة وأبعادها الفكرية قد نحتاج في مواجهة هذا النوع من علامات الاستفهام أن نتفهم طبيعة هذه «الصحوة الإسلامية» وحجمها في حركة الواقع لنحدد صورتها وأبعادها الفكرية من خلال ذلك على مستوى النتائج، فما هي طبيعتها، وما هو حجمها؟.. إننا نلاحظ أن الوضع الإسلامي كان يعيش حالةً من الركود في حركيته، فقد كان الفكر غارقاً في الكثير من الهوامش والتفاصيل التي تأكل حيويته، لأن المسألة كانت تتحرك في ذهنية التراث لا في ذهنية الحركة.. وكانت مسألة مواجهته لمشاكل الحياة على مستوى الواقع غارقةً في الضباب الذهني الذي فرضته الأفكار الجدلية التي لا تنفتح على آفاق النور في موقع، إلاَّ لتحاصرها الظلمة في موقعٍ آخر.. ما جعل البعض يطرح الإسلام في دائرة العباديات والأخلاقيات العامة والتشريعات الفردية بعيداً عن مسائل الحياة العامة في نطاق المسؤوليات السياسية والجهادية، كما جعل بعضاً آخر يطرح تجميد الإسلام في حركيته – مع اعترافه بشموليته – انتظاراً لآخر الزمان، لأن الظروف الحاضرة تمنع شرعيته، ويرى فريق ثالث أن مسألة الحديث عن الإسلام الشمولي قد تجاوزها الزمن، لأن المراحل الزمنية التي قطعها الإنسان ربطته بأوضاع جديدةٍ لم يواجهها الإسلام في مرحلة نشوئه وحركته السابقة، ما يفرض عليه أن يتخلى عن دوره للأفكار الجديدة التي تتسع لمشاكل الإنسان الجديدة، ليكون الإسلام مصدر إلهام في أفكاره وقيمه العامة، بدلاً من أن يكون مصدراً للعقيدة بتفاصيلها، أو للشريعة بشموليتها، ويقف إلى جانب ذلك فكرٌ إسلامي يعمل على الهروب من الغيب. ما أمكنه ذلك، ليتحرك في نطاق التوفيق بين ما هو الفكر الإسلامي وبين ما هو الفكر الغربي الذي فرض نفسه على الواقع السياسي في موازين القوة والضعف، لتكون المسألة المطروحة هي أن الإسلام يتفق مع المعطيات الحديثة للفكر الإنساني، وللتقدم العلمي، ما يجعل ذلك هو الميزان للقيمة الإسلامية في نظر الإنسان المسلم.. وهذا هو الاتجاه الذي قد لا يعوز أصحابه الإخلاص للإسلام، ولكنه يخضع للذهنية التي عاشت الانبهار بالحضارة الغربية، فأرادت للإسلام أن يأخذ بأسبابها في مجال التفسير للقرآن، والتوجيه للشريعة.. وقد انطلق – مع هذا الفكر التوفيقي – فكر حركيٌّ على أنقاض الفكر المتخلف الذي يُبعد الإسلام عن الحياة وفي مواجهة الصدمة الكبيرة التي انسحب فيها الإسلام من مواقع الحكم والتشريع من خلال الهجمة الشرسة على الإسلام في قواعده السياسية التي قادها الاستكبار العالمي الغربي القائم على الكفر والانحراف، لتقود المسلمين إلى الفكر المتحرك في النطاق الوطني أو القومي، بعيداً عن النطاق الإسلامي. وهكذا بدأ المسلمون الواعون يخططون لحركة إسلامية سياسية تعمل على إعادة الإسلام إلى الحياة العامة في حركة الفكر والتشريع والجهاد.. وقد أفسحت هذه الحركة الإسلامية المجال لنشاط إسلاميّ سياسي وفكريٍّ في مختلف بلدان العالم الإسلامي، حتى تحوَّلت الحركة إلى حركات متعددة تختلف في التفاصيل الذهنية أو المفردات التشريعية، أو في النظرة السياسية.. ولكن ذلك كله لم يستطع أن يحرّك الواقع الإسلامي الخاضع للسيطرة الاستكبارية، ليأخذ بأسباب الحرية والاستقلال على أساس القاعدة الإسلامية الفكرية السياسية.. بل كان الأمر في ذلك مشدوداً إلى الأفكار الجديدة المطروحة في دائرة التفكير الغربي على مستوى الحركة السياسية.. فكنا نرى ثورة قومية هنا وحركة وطنية هناك، وحديثاً عن معارضة ماركسية في مجال آخر.. أما الحركة الإسلامية، فإنها تعيش في نطاق الصراع الثقافي، أكثر مما تعيش في ساحة الصراع السياسي، وإذا استطاعت أن تصل إلى بعض مواقع القوة، كان الإعلام الخاضع للغرب يعمل على أن يبعدها عن الوجهة، كما أن أجهزته المخابراتية كانت تعمل على إثارة الفوضى في داخل هذه المواقع لتضعفه من الداخل، وتبعده عن التأثير الحاسم. وفي هذا الجوّ القلق الذي كان مفروضاً، أصيبت الحركة الإسلامية ببعض الانكماش، فيما هي المسألة الثورية، وببعض الضعف، فيما هي المسألة السياسية.. بحيث أصبحت تمثل الدوائر المحدودة المحاصرة من قبل أجهزة الحكم العميل للغرب فيها، ومن قِبَل الذهنيات المتغربة التي درست في معاهد الغرب فيما ركزته من المفاهيم التي تفصل بين الدين والدولة، وتنعى على الإسلام تدخله في السياسة، ومن قِبَل العقليات المتخلفة المتحجرة التي تحصر الإسلام في دائرة العبادة وتبعده عن دائرة الحياة العامة. عقبة التعصب بدأ التخلف يزحف إلى مواقع الصحوة، وانطلق الاستكبار يخطّط لاحتواء هذا الواقع كله، وتحركت الأفكار المضادّة لتأخذ المبادرة في مواجهة هذا التحول النوعي الجديد الذي استطاع أن يدفع بالجماهير للعودة إلى الإسلام، وكانت هذه الأفكار الإسلامية قد استقطبت البعض بسبب حالة الفراغ الموجودة بفعل غياب الإسلام الحركي، وسرعان ما قدمت الإجابات عن كثير من علامات الاستفهام المعاصرة التي تثيرها مشاكل الإنسان الجديدة.. ومن مظاهر التخلف أن الأفكار المذهبية أخذت تتحرك في الساحة بطريقة التعصب التي لا تفسح المجال لأي حوارٍ موضوعيّ حول القضايا التي تختلف فيها المذاهب في مسائل العقيدة والشريعة، بل تعمل على أن تثير المواقع المذهبية هنا وهناك بشكل متحجر لا يفسح المجال لأي جدالٍ أو مناقشة، وأن ترجم بالحجارة كل من يثير أي علامة استفهام حول المسلّمات المذهبية، أو يدير الأمر بأسلوب قرآني يدفع الإنسان إلى أن يأخذ بالتي هي أحسن في طرح القضية وفي جدال الآخرين. وفي ضوء ذلك، استفاد الاستكبار من الذهنية المتخلفة المتحجرة التي لا تأخذ بأسباب الحوار، وفي إثارة الضباب حول الصحوة الإسلامية، ليواجهها بتهمة المذهبية، فهي ليست ثورة إسلامية، بل هي ثورة مذهبية شيعية او سنية تعارضية لا تقاطعية لا دخل للمسلمين الآخرين فيها ولا في مفاهيمها، ولا في منطلقاتها، فيما يثيره الاستكبار من خلال بعض الدوائر المشبوهة الضيقة كأسلوبٍ عمليّ خبيثٍ لتطويق الصحوة الإسلامية بعمومها، ولإشغال الساحة بالتفاصيل الصغيرة التي تأكل روحية الصحوة كما تصادر مواقف الإسلاميين المتحركة في خط التغيير لإبعادهم عن قوة الاندفاع في مواجهة كل هؤلاء الذين جعلهم المستكبر الكافر حرّاساً لأفكاره وامتيازاته ومصالحه، عندما أفسح لهم المجال ليكونوا ملوكاً وأمراء ورؤساء في بلاد المسلمين على حساب الإسلام في أهدافه الكبيرة في الحياة.. مشكلة الخطاب السياسي – الفكري الخطاب السياسي للصحوة الإسلامية متنوعاً في مفرداته، بحيث يتوزع ضمن أفكار متعددة، عنيفاً في أسلوبه، بحيث يتحرك في عنفه في الداخل والخارج، في الخط الثوري للصحوة، حتى تحوّلت مسألة الأسلوب الهجومي إلى عقدةٍ في الذات والموقف، وأصبح الحديث الموضوعي الهادئ الذي يناقش القضايا بعقلانية تعبيراً عن حالةٍ انهزامية ترفضها الثورة.. واستطاع الذين يرصدون حركة الصحوة الإسلامية في ثوريتها المندفعة أن يسجلوا عليها الكثير من نقاط الضعف في مضمونها الفكري الذي لم ينطلق من فكرٍ إسلاميٍّ موحّدٍ أو من مستوى فكريٍّ معقول، وذلك في غياب تخطيط ثوري لوحدة الطروحات الفكرية، أو للمحافظة على النوعية الجيدة للمتحدثين باسمها، ما جعل الصورة تهتز في أفكار الذين اجتذبتهم الصحوة بمواقفها، ولكنها حيّرتهم بفكرها، فلا يدرون من أين ينطلقون في قاعدته، من الغيب أو من الحسّ، أو منهما معاً، وكيف تتم عملية التوزيع، وما هي القاعدة التي يكون الآخر فيها استثناءً، إلى غير ذلك من علامات الاستفهام التي تبعث الحيرة في العقل. وكان العنف مشكلةً للناس الذين يحبون ملامح الصحوة الإسلامية في وجهها الثوريّ، فهم لا يرفضونه كمبدأٍ، من حيث حاجة الحياة إليه في مواقع التحدي التي تتكلم بلغة العنف التي تضيع أمامها لغة الرفق، فلا مجال إلاَّ للعنف الذي يشكل الصدمة القوية التي تضعف الموقف المضاد أو تهزمه، أو من حيث حاجة الحركة الإسلامية إليه في بعض مواقف القوّة التي توحي للناس بأن عليهم أن لا ينسحقوا أمام تهاويل القوة لدى الآخرين.. لأن الإسلام يملك المستوى الكبير من القوة في مواجهتها، حتى لا يبتعدوا عن مواقف الإسلام في عملية الاختيار من خلال اقتناعهم بقوة الآخرين.. إنهم لا يرفضون العنف الذي تختزنه الحياة في حركة العواصف، وهيجان الأمواج، وطغيان الماء، وزلزال الأرض في حاجة الكون إلى ذلك، ولكنهم يرفضونه كقاعدةٍ شاملةٍ في جميع المواقع، ومع كل الناس، لأن هناك موقعاً قد يثبّته الرفق لما لا يستطيع العنف أن يثبّته، كما أن هناك فريقاً من الناس لا تنفتح قلوبهم إلاَّ للكلمة الهادئة العاقلة، أو للفكرة الموضوعية المتزنة، في ما يأخذون به من هدوء الجوّ، وموضوعية الفكرة.. ويضيفون إلى ذلك، أن الإسلام اعتبر الرفق أساساً للأسلوب وللحركة، إلاَّ إذا اضطر الإنسان فيه إلى العنف، وهذا ما جاء به الحديث النبوي المأثور: «إن الرفق ما وضع على شيء إلاَّ زانه ولا رفع عن إلاَّ شانه»... و«إن الله رفيق يحب الرفق وأنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»، ويؤكدون أن الثورية لا تعني القسوة في الكلمة، والعنف في الأسلوب، بل تقتضي توفير العناصر الضرورية التي تساهم في تغيير الفكرة والموقف، بالأسلوب الحكيم الذي يدرس كل الشروط الموضوعية في الحياة والإنسان مما يحقق النتيجة الحاسمة في ذلك كله. الصحوة نتاج اجتهادات متعددة ويردّ الذين يتابعون حركة الصحوة الإسلامية، من موقع قياديّ مسؤول متقدم، على هذه الملاحظات الناقدة بالمنطق التالي: إننا نوافق على أن فقدان وحدة الفكر في الخطاب الإسلامي يمثل مشكلةً صعبة لمؤيّدي الإسلام ولمعارضيه، لأن ذلك يمنع هؤلاء المؤيّدين من استيعاب الفكرة الإسلامية في مسألة الانتماء العقيدي والالتزام الفكري. كما يمنع المعارضين من فهم هذه الحركة الجديدة، ليناقشوها بما تلتزمه من أفكار ومواقف.. فقد تنقدها في بعض مواقف الفكر المطروح، فنفاجأ بأن هذه المواقف ليست مواقفها الحقيقية، لأن الصورة الأخرى البارزة في مواقف أخرى هي الصورة التي تلتزمها هذه القيادة وتلك. إن الإسلاميين يدركون المشكلة المعقدة في هذه المسألة، ولكنهم يوجهون الانتباه إلى نقطةٍ مهمة جدّاً، وهي أن الصحوة الإسلامية لم تنطلق من موقفٍ ضيّقٍ مضبوط، ليمارس حركته في وحدة الفكر الحزبي، المحدّد الملامح والاتجاهات والأساليب، بل انطلق من الحالة الإسلامية العامة التي تتمثل في الاجتهادات المتعددة التي يختلف فيها المجتهدون، ويتنوّع معها المقلّدون لهم، وفي الشعارات المتنوعة التي يلتزمها الناس تبعاً لمشاعرهم وأفكارهم وأوضاعهم في الساحة الإسلامية الواسعة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الثورة كانت نتيجة فكرٍ عام لم يصطدم بالتفاصيل الصغيرة من قبل، ولم يدخل في معطيات التحديات الكثيرة الواسعة التي حركتها الثورة وأفرزتها الأحداث، في آفاقٍ جديدةٍ، وفي مواقع مختلفة، مما لم تفكر الثورة فيه بشكل دقيق، لأنها كانت مشغولةً بعملية التحضير للانتصار الكبير، الذي يدفع بالموقف إلى خط المواجهة، ويفجر الطاقات الكامنة لدى الأمة، ويحرّك الأوضاع الساكنة.. إذا لاحظنا ذلك، فإننا قد نجد في ذلك بعض العذر في هذه المسألة، لا سيما إذا عرفنا أن القيادة الثورية الإسلامية كأية قيادةٍ أخرى، لا تملك في حالة التفجير الثوري الهائل وفي مواقع الزلزال العنيف، أن ترصد الكلمات والأساليب والأوضاع بشكل دقيق في عملية ضبطٍ وتوحيدٍ، لأن طبيعة الأجواء الملتهبة لا تسمح بذلك، أو لا تستطيع الوصول إلى ذلك بسهولة، ما يجعل المسألة التوحيدية مؤجلةً إلى فرصة أخرى. أما السلبيات الحاصلة من ذلك، فإنها قد تجد حلاً لها في مرحلةٍ متأخرةٍ من عمر الصحوة عندما يفرغ الدعاة بعض الشيء، ليجيبوا على التساؤلات القادمة من ردود الفعل الحائرة لدى المؤيدين والمعارضين، أو عندما تتحرك الأفكار المتنوعة لتفرض مشاكلها على الساحة، فتدفع المفكرين الإسلاميين إلى تصفية هذه التركة المثقلة التي لم تكن نتيجة الاختلاف في طبيعة فكر الصحوة في مواقف قياداتها، بل كانت نتيجة الحالة الإسلامية العامة في تنوّع اجتهاداتها واختلاف طروحاتها ونظراتها للأمور في الوضع الإسلامي العام. وقد لا نجد ثورةً في العالم إلاَّ ونجد مثل هذا الوضع المتنوع في مستوى الاختلاف في الفكرة والأسلوب، في ما تتمثله الجماهير من ذلك كله، لأن القضية لا تكمن في طبيعة حركة الفكرة فيما هو التعدد والوحدة، بل في طريقة انفعال الجماهير في فهمهم للفكرة على صعيد العقل والشعور، مما لا يمكن للثورة أن تضبطه في ذلك الجوّ الثائر، مع ملاحظةٍ مهمّة جدّاً، وهي أن طبيعة الإسلام تختزن في الواقع الإسلامي الفكري والحركي الكثير من الاختلافات المتنوعة، ما يجعل الخلاف حالة طبيعية، بالإضافة إلى الأوضاع الطارئة فيما هي قضية الصحوة. ثم إن النقطة المهمة التي تثير الانتباه وتخفف المشكلة، هي أن للإسلام مصادره الأصيلة في كتاب الله وسنّة نبيّه، مما يمكن أن يرجع فيه الاختلاف إلى موقع واحد، بخلاف بعض الأفكار التي تخضع لخصوصيات الأشخاص الذين تتنوع منطلقاتهم الفكرية مما يصعب فيه الوصول إلى نتيجةٍ محدّدة. الصحوة ولغة العنف أمّا العنف في الأسلوب، وفي مضمون الفكرة، فقد يصدم البعض من أفراد الأمة الذين اعتادوا على الأسلوب الهادئ الوديع، فلا يطيقون الأساليب القويّة التي توحي بالقسوة والعدوان، وقد يترك أثره على حركة الثورة فيما يمكن أن يبعد بعض الناس عنها على أساس الصورة القاسية الملامح التي لا تتناسب مع الوجه الوديع الذي يحمله الناس عن الإسلام في عنوانه الكبير «دين الرحمة». ولكن المسألة قد تتمثل في مشكلتها الإسلامية بما تمثلت به في حركة الجهاد في الإسلام، سواء في عصر النبي (ص) أو في العصور المتأخرة عنه، فيما كان يثيره في وعي الناس من صور المذابح التي تثيرها الحروب، والآلام التي تحصل منها، والنتائج القاسية المدمّرة التي تنتهي إليها.. ولعلَّ المشكلة في ذلك كله، أن الصورة عندما تبتعد عن ظروفها الصعبة، وشروطها الموضوعية، فإن الناس يفقدون الوضوح في الرؤية للأوضاع المحيطة بالمسألة، فيحدّقون في الصورة بعيداً عن الإطار، أو في التهاويل الموجودة في ملامحها الخلفية، وهذا هو ما واجهته «الصحوة الإسلامية» في حركتها الثورية، فقد كانت التحديات الصعبة التي واجهتها في كل ساحات التحدي قاسيةً شديدةً، في مستوى الخطورة الكبيرة على وجودها، بحيث تفرض عليها أن تكون في حالةٍ غير عاديةٍ، لا تخضع للمألوف من القوانين والأوضاع، لتواجه الأخطار المحيطة بها عن يمينها وشمالها ومن بين يديها ومن خلفها.. تماماً كما هو الإنسان في ساحة الحرب المتعددة الجهات والأعداء. وهناك ملاحظة أخرى لا بدَّ من الانتباه إليها، وهي أن للصحوة في خطابها السياسي هدفين: - الهدف الأول: مواجهة التحدّيات الصعبة التي يثيرها أعداء الإسلام من الكافرين والمستكبرين، وذلك بالأسلوب القويّ الفعَّال، فيما يمكن أن يحققه من ضغطٍ نفسيٍّ وواقعيٍّ عليهم، للإيحاء المستمرّ بأن الإسلام الذي يؤكدّ على الرفق في تخطيطه العملي، لا يمتنع من تحويل الموقف إلى أعلى درجة من العنف السياسي والجهادي عندما يتحرك الآخرون ضده في دوامة العنف التي يثيرونها في ساحته. - الهدف الثاني: إيجاد حالةٍ تعبويّة في داخل الوعي الذاتي للإنسان المسلم، في العناوين السياسية الكبيرة، في ما يحتاج إلى إثارة الشعور وتحريك الانفعال، وإسقاط الهيبة للأقوياء من نفوس المستضعفين، وتحطيم عنصر الخوف في وعي الأمة، وإثارة الحماس في مواجهة الظلم والظالمين، وغير ذلك من الأمور التي تفرض تثقيف الأمة في مراحل الصحوة الأولى، لتزداد بذلك قوَّة في مشاعرها، فتتحول إلى قوّةٍ في مواقفها.. وهذا هو الذي ينبغي التخطيط له في تربية العاطفة، وتقوية الشعور. ولعلَّ من الطبيعي أن يلتقي هذا الأسلوب ببعض السلبيات التي تحيط بالموقف، عندما ينحرف الانفعال بالإنسان عن خط التوازن، وتلتقي العاطفة ببعض الانهيارات في المواقف.. ولكن الإيجابيات الإسلامية السياسية في عمق التعبئة التي تملأ العقل والوجدان والشعور والحركة بالكثير من أسباب التوتر، ووسائل القوة، تزيد عن حجم السلبيات. «الشعار السياسي» التغييري لغة القرآن العاملين في الحقل الإسلامي السياسي يردون على ذلك بأن الصحوة الإسلامية ليست حركة انقلاب من حاكم على حاكم لتستريح لأوضاعها الذاتية الخاصة، ثم تُبقي على الأجواء العامة في خط الأمر الواقع الخاضع للخطوط العامة في حركة السياسة للدول الكبرى، بل هي حركة تغييرية تعمل على تغيير الإنسان من الداخل في مسألة الانتماء الحقيقي للخط الإسلامي من أجل تحريره من الهيمنة الروحية والفكرية كجزءٍ من تحريره من قضية الشرك في واقع الصنمية، فيما أراده من تغيير الإنسان من عقلية الشرك إلى عقلية التوحيد، بحيث يتحرر داخلياً فيما هو الفكر والشعور، وخارجياً، فيما هي الحركة والممارسة، فكانت الحملة الكبيرة على الأصنام من جميع الجهات، وعلى جميع الأصعدة، بحيث لا يسمح بالإطلالة على واقع الصنمية حتى في مستوى الشكل، وهكذا استطاع الإسلام أن يصل بالإنسان إلى التوحيد الخالص، بالرغم من السلبيات التي عاناها في بداية عهد الدعوة، حين وقف المشركون أمامه، فعطلوا كثيراً من مخططاته، وأثاروا الكثير من الحواجز في وجهه. إن المطروح في الساحة الإسلامية المعاصرة، هو تغيير الذهنية الإسلامية من كل خضوع للقوة المهيمنة المستكبرة الكافرة في العالم، مما يعتبره الناس قضاءً وقدراً لا يستطيعون الفكاك منه، انطلاقاً من القوة المادية الضاغطة التي تملكها في مواجهة المستضعفين.. ولا بد في هذا من التخطيط لذلك بإثارة الفكرة التي توحي بنقاط الضعف لدى المستكبرين في مقابل نقاط القوة لدى المستضعفين، وبترديد الشعار الذي يسقط هيبة هؤلاء في النفوس، حتى لا يتصوروهم إلاَّ في مواقع السقوط والانحطاط، وبممارسة بعض الأوضاع التي تؤكد على ذلك. وإذا كان هذا استغراقاً في الأوهام السياسية والخيالات الفكرية، لأن الواقع الذي يرجع إليه حملة الشعارات سوف يصدم كل شعاراتهم، ويثبت ابتعادها عن الواقع. إذا كان بعض الناس يرى ذلك ويثير الفكرة التي تقول بأن الموقف سوف يتحول إلى حالةٍ انتفاخية لا تلبث أن تزول وتذوب، فإن الرد عليه، أن من أهداف الإسلام تحرير الإنسان من الداخل، في عملية هزَّة روحيةٍ تربطه بالله مصدر القوّة، وتريه حركة القوة الإلهية في الكون، ليخفف من تأثير المتألهين في ذواتهم، المسيطرين على حركة القوَّة المادية المباشرة المتحركة في عالم الحس، الذين يعملون على تأكيد قوتهم في الواقع النفسي للناس حتى يشلّوا حركتهم عن أي تحرك مضادّ، الأمر الذي يفرض مواجهةً قويةً متعددة الوجوه لتفريغ الروحية الإنسانية للإنسان المسلم من أيّ شعور بالخوف من هؤلاء، حتى يملك إرادته الحرّة في اتخاذ قراراته المستقلة المنسجمة مع خطه الإسلامي الذي يريد الله أن يتحرك فيه ليصل إلى رضوانه.. وهذا هو ما درج عليه الأسلوب القرآني في تصوير المستكبرين في مواقع ضعفهم، وفي التأكيد على عظمة الله القاهر فوق عباده، القادر على كل شيء والمهيمن على الأمر كله، والكافي من كل أحد ولا يكفي منه أحد، والمتحرك في خط الإيحاء بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴿إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم﴾ [الأعراف/149] ﴿وانهم لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاًَ لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب﴾ [الحج/73].. إلى غير ذلك مما تتنوع فيه الأساليب في الحديث عن الله في مواقع عظمته المطلقة في الكون، حتى يتحوّل الإيحاء إلى الحديث عن المواقف العملية للقوة الروحية الإيمانية في موقف الأنبياء الرافض للخضوع للخوف الذي يفرضه المستكبرون عليه، وذلك في ما حدثنا الله به عن موقف النبي (ص) ليلة الهجرة، وذلك في قوله تعالى: ﴿إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيَّده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا﴾ [التوبة/40]. وقوله تعالى في الحديث عن المؤمنين الذين تحاول الدعاية المضادَّة أن تهزمهم نفسياً من خلال الإيحاء بالقوَّة المسيطرة على الوضع العام : ﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين﴾ [آل عمران/173/175]. فإننا نلاحظ أن القرآن الكريم قد صوَّر المسألة على صعيد الواقع العملي، كتجربةٍ حيّةً فاعلة، أعطت نتائجها الإيجابية على أساس الإرادة القوية المنفعلة بإيمانها، المنفتحة على الله، الثابتة في مواقفها، البعيدة عن الاهنزاز، المتمردة على الخوف، الأمر الذي جعل النبي (ص) والمؤمنين يأخذون بأسباب القوة الداخلية، لتتحول إلى موقعٍ متقدم من حركة القوة في حياتها، ليكونوا بذلك أهلاً لكرامة الله، في الحصول على رضاه، وفي الأخذ بألطاف القوَّة منه. وهذا خط إيحائيّ يدعو المؤمنين إلى استلهام التجربة الحية لمن سبقوهم بالإيمان المتحرك في ساحة الصراع، لينطلقوا من خلاله في التفكير بواقعية الحالة الروحية في التحرك في مواقع القوة العملية. على ضؤ الثورات الشعبية في البلاد العربية والأسلامية التي اصطلح على تسميتها بربيع العرب من الضروري أن نستعيد بعضاً من مآثر ها ثورة فريدة من نوعها باعتبارها مفاجأة على مسرح الأحداث الدولية، وذلك من حيث السرعة التي حدث بها التغيير العميق، وكذلك الدور القيادي للدين والمسجد فيها ، كما أنه كان يعتقد أن الأنظام محمية كما يجب من قبل الجيوش والأجهزة الأمنية التي أنفقت الأنظمة عليها ميزانيات ضخمة، إضافة إلى انعدام الأسباب الاعتيادية المعروفة للثورة، كالأزمات المالية، أو الهزائم العسكرية، أو عصيان الفلاحين، أو التمرد العسكري.على أنها مدعوماً من مظاهرات شعبية منقطعة النظير. الأمام حسن البنا مشروع النهضة عند الأمام حسن البنا إذا نظر الباحث المنصف إلى ظواهر البعث والإحياء والنهضة والتجديد والإصلاح، والمشروعات الحضارية النهضوية، وحركاتها وتنظيماتها على امتداد أوطان الأمة الإسلامية، وفي خارجها حيث توجد الأقليات الإسلامية، فسيجد أن ظاهرة الصحوة الإسلامية ومشروعها الحضاري، هي أقوى ظواهر هذا العصر الذي نعيش فيه وأعمقها انها امة الخصوبة بأمتياز عندما يستكين العالم للظلم والأستكبار والجبروت تتفرد الأمة الأسلامية بقبول التحدي رغم الفوارق المادية الشاسعة التي تكون عليها ها هم الآخرون بعيد انتهاء الحرب الباردة قد رضوا بأستلحاقهم الفُتاة الأمريكي مقابل حفظ رؤسهم على حساب القوانين والعقائد والدساتير والأخلاق والحقوق الأنسانية وبقيت ثلة المجاهدين المسلمين ترفع لواء الحق في وجه الطاغوت الأكبر واعوانه!. ولا يوجد خلاف على أن الشيخ حسن البنا يمثل ركناً ريادياً راسخاً بالنسبة لهذه الظاهرة الكبرى، التي تمثل أمل النهضة لدى الإسلاميين. وقد كانت إمامة البنا وريادته لهذا الإحياء الإسلامي المعاصر، يمثل الحلقة المعاصرة في سلسلة حلقات هذا الإحياء الإسلامي الحديث، فقد كان امتدادا متطورا لمرحلة "النشأة" و"التبلور" التي تمثلت في حركة "الجامعة الإسلامية" التي تزعمها رائد الإحياء الإسلامي في العصر الحديث: جمال الدين الأفغاني، كما مثل الشيخ محمد رشيد رضا الامتداد، الذي حمل رسالتها –عبر مجلة (المنار)– إلى العالم الإسلامي على امتداد أربعين عاما، ثم أسلم أمانتها إلى الشيخ حسن البنا، الذي واصل إصدار(المنار) لعدة سنوات، كما أخذ في تفسير القرآن الكريم من حيث انتهى رشيد رضا، الذي سبق وواصل تفسيره، والذي حافظ – في البرنامج التثقيفي لجماعته – على تدريس كتب: (رسالة التوحيد) و(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) . و(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لعبد الرحمن الكواكبي (1270-1320 هـ / 1854-1902م). وذلك لتأكيد قسمة "التواصل" و"الامتداد"، مع "التطور" الذي انتقلت به الظاهرة الإحيائية والتجديدية –على يديه– إلى "الكيف" الجديد والمعاصر، الذي استجاب ويستجيب لمتغيرات الواقع والتحديات. مشروع البنا لنهضة الأمة وبمناسبة مئوية الإمام حسن البنا، قدم الدكتور محمد عمارة بحثا عنوانه: (مشروع نهضة الأمة في فكر الإمام الشهيد حسن البنا). تناول فيه أهم معالم المشروع الإصلاحي في فكر الإمام البنا، حيث ذكر الدكتور عمارة أن سنة 1347هـ / 1928م كانت سنة "اللحظة التاريخية" التي مثلت "التطور النوعي" لإنجاز الشيخ حسن البنا في سياق تطور المشروع الإسلامي للنهضة الحضارية، وتجديد دنيا المسلمين بتجديد دين الإسلام، حيث أدرك فيها هذا الرجل أن تصاعد التحديات، وثغرات الأخلاق، وعموم البلوى، إنما تتطلب الانتقال بالقضية من إطار الصفوة والنخبة – التي كانت عليه منذ )العروة الوثقى) وحتى (الشبان المسلمين) – إلى الدائرة التي تشترك فيها "الأمة" مع "النخبة"، وإلى المستوى الذي تسهم فيه "الجماهير" مع "الصفوة" في مواجهة التحديات. وفي بحثه الذي قدمه الدكتور محمد عمارة بمناسبة الاحتفال بمئوية الإمام حسن البنا، ألقى بعض الإضاءات السريعة على معالم المشروع التجديدي للنهضة الحضارية الإسلامية، كما صاغه الإمام البنا لحركة الصحوة الإسلامية المعاصرة، ممثلة في (جماعة الإخوان المسلمين)، مؤكدا تميز الحركة عن المؤسسات الدينية التقليدية التي من وجهة نظره كانت ولا تزال واقفة عند "المتون" و"الحواشي" و"التعليقات" و"الاعتراضات" التي أفرزها عصر التراجع الحضاري –المملوكي، العثماني- والتي أقامت شبه قطيعة معرفية مع عصر الازدهار والإبداع في تاريخنا الحضاري، واتخذت موقفا غير ودي من إبداعات العصر الحديث في التجديد والإحياء؛ ولذلك أعلن حسن البنا أن جماعته هي: دعوة من دعوات التجديد لحياة الأمم والشعوب، وأنها لذلك جامعة لأصول التجديد ولمعالمه، ومستجيبة لملكات الإنسان، وملبية لشرائح الأمة ومكوناتها، وأيضا مراعية لمستوى الجماهير؛ فهي. بين "النظر العقلي" و"النظر الشرعي" وقف الأمام البنا بـ(التجديد الإسلامي) عند وسطية الإسلام، فقطع باستحالة الخلاف والصدام والتناقض بين "النظر العقلي" و"النظر الشرعي" في الأمور "القطعية". وإذا كانت "طبيعة المبحث" هي التي تحدد أداة النظر فيه، وهل الأولى أن تكون "العقل" أو "الشرع" فإن اختلافهما إنما يكون في "الظاهر" وفيما هو "ظني" لم يبلغ فيه أحدهما مرتبة "اليقين"، فقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر. وإذا كان الإسلام قد رفض "غرور العقل" و"انفراده بالنظر" في كل الميادين، ودعا إلى التوازن بين نظره والنظر الشرعي، فإنه على حد قول الإمام البنا: "لم يحجر على الأفكار ولم يحبس على العقول، بل جاء يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح النافع من كل شيء، والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها". مرونة الشريعة وانفتاحها وحتى يكون الباب مفتوحا –حقا– أمام التجديد، جاء الإسلام –في المعاملات، والاجتماعيات، والسياسات– بالكليات؛ فوقفت شريعته –التي هي وضع إلهي ثابت– عند فلسفة التشريع، ولم تأت بتفاصيل التشريعات، وركزت على "القواعد" و"النظريات" و"الكليات" تاركة الباب مفتوحا أمام "الاجتهاد" المحكوم بهذه الكليات والقواعد والفلسفات والنظريات، ومفتوحا –كذلك– أمام التجديد الذي يضع هذه الاجتهادات في الممارسة والتطبيق، فكان هذا المنهاج الإسلامي الذي يواكب كل المستجدات بالحلول الجديدة، والذي تبقى فيه هذه الحلول الجديدة إسلامية دائما وأبدا؛ لأنها فروع وأوراق للجذور والأصول والكليات والثوابت التي لا تغيير فيها ولا تبديل. وعن هذا الموقف الإسلامي من الكليات الثوابت، والجزئيات المتجددة، كتب البنا فقال: (لقد جاء الإسلام للناس فكرة سامية تحدد الأهداف العليا، وتضع القواعد الأساسية، وتتناول المسائل الكلية، ولا تتورط في الجزئيات، تدع بعد ذلك للحوادث الاجتماعية والتطورات الحيوية أن تفعل فعلها وتتسع لها جميعا ولا تصطدم بشيء منها، ولقد فرق الفقهاء في النظرة التشريعية بين ما هو من قواعد أحكام المعاملات وشئون الحياة الاجتماعية، فأفسح للنظر والاجتهاد في الثانية ما ليس في الأولى حتى لا يكون على الناس في ذلك حرج ولا مشقة (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185(. وهذا الجديد الذي تفتح له الشريعة صدرها وتفسح أمامه الطريق، كما يكون إبداعا ذاتيا للأمة الإسلامية والعقل المسلم، يكون – أيضا – حكمة – أي صوابا عقليا – يلتقطها العقل المسلم أنّى وجدها، وبصرف النظر عن المواطن الحضارية التي أبدعتها. إسلامية النظام النيابي الدستوري الأمام البنا طبق منهج انفتاح الإسلام – وخاصة في الشئون الدنيوية على مختلف الثقافات والحضارات؛ فطبقه على الموقف الإسلامي من النظام النيابي والدستوري الذي تبلور في تجارب الديموقراطيات الغربية؛ فقال: "إنه ليس في قواعد هذا النظام النيابي –الذي نقلناه عن أوروبا– ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدا عن النظام الإسلامي ولا غريبا عنه"، ويقول: "وإن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري، التي قام عليها الدستور المصري الموضوع 1341هـ /1923م – التي تتلخص في: المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب، ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات - هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم. ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاما آخر". رفض التغريب ونقد الحضارة المادية وفي مواجهة "التغريب" الذي اخترق عقل الأمة، وغدا له أنصار من بين أبنائها، يقف مشروع البنا ليقول: "إن الحضارة الغربية، بمبادئها المادية، قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي على الحضارة الإسلامية، بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معا في أرض الإسلام نفسه، وفي حرب ضروس ميدانها نفوس المسلمين وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري... وكما كان لذلك العدوان العسكري أثره في تنبيه المشاعر القومية، كان لهذا الطغيان الاجتماعي أثره كذلك في انتعاش الفكرة الإسلامية". كما يقول أيضا: "إن مدنية الغرب، التي زهت بجمالها العلمي حينا من الدهر، وأخضعت العالم كله بنتائج هذا العلم لدوله وأممه، تفلس الآن وتنتحر! فهذه أصول السياسة تقوضها الدكتاتوريات، وأصولها الاقتصادية تجتاحها الأزمات، وأصولها الاجتماعية تقضي عليها المبادئ الشاذة والثورات المندلعة في كل مكان، وقد حار الناس في علاج شأنها، وضلوا السبيل! ونحن نريد أن نفكر تفكيرا استقلاليا، يعتمد على أساس الإسلام الحنيف، لا على أساس الفكرة التقليدية التي جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء. نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة، تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد". ويعلق د.عمارة قائلا: "كان الموقف التجديدي –إزاء الحضارات الأخرى– وسطا... يرفض "الانغلاق والعزلة" ويرفض "التبعية والتقليد" ويتخذ الموقف النقدي، الذي يميز ما بين "المشترك الإنساني العام" وما بين "الخصوصيات العقدية والفلسفية والثقافية"، فهو "التفاعل" الذي ينفتح على الدنيا من موقع الراشد المستقل، الذي لا يفقد هويته ولا يفرط في روحه الحضارية المتميزة عن الآخرين". في مواجهة التخلف الموروث وفي مواجهة "التخلف الموروث"، دعا البنا إلى "التجديد"، وحدد في صراحة ووضوح أن دعوته هي واحدة من "الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب". وطالب في النظرة النقدية للتراث والتاريخ بالتمييز بين "الدين الثابت" وبين "الفكر المتغير" و"الممارسات البشرية"؛ وهو ما يعني التطبيق لمنهاج التجديد الإسلامي في العودة إلى المنابع الجوهرية والنقية المعصومة –الكتاب وصحيح السنة– أي البلاغ القرآني، والبيان النبوي لهذا البلاغ القرآني، فهو "المقدس الملزم" بينما الفكر الإسلامي، والتراث الحضاري، وتجارب التاريخ، هي كنوز نحييها ونحتضنها، ونستلهم منها، لكن دون تقديس ولا تعصب ولا إلزام. وعن هذا المنهاج التجديدي يقول البنا: "إن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما فلن تضل أبدا، وإن كثيرا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها؛ ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جمعاء". ويؤكد عمارة على أنه عندما نتأمل هذا المنهاج في التجديد الإسلامي، عند الأستاذ البنا، ونتأمل كلامه السابق، نتذكر صياغة اسلافه الصالحين لذات المنهاج، عندما دعوا إلى "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة، قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى". وبهذا المنهاج تتحول السلفية إلى تحرير وتجديد، لا إلى جمود وتقليد، كما فهمها آخرون! وهنا –أيضا– يتميز التجديد الإسلامي عن "الحداثة" –بمعناها الغربي– فضلا عن تميزه عن الجمود والتقليد. فالجمود والتقليد قد حوّل "التراث" إلى مرجعية كادت أن تحجب المنابع الجوهرية والنقية للإسلام، حتى غدت حجابا بين العصر وبين البلاغ القرآني والبيان النبوي لهذا البلاغ القرآني.. وكادت المذهبية والمذاهب أن تحجب مقلديها عن منهاج النبوة. ثم جاءت "الحداثة" –بمعناها الغربي– لتقيم قطيعة معرفية كبرى مع الموروث والتراث، والموروث الديني على وجه الخصوص، فأحدثت فراغا كاملا، فلا "التراث" أبقت، ولا هي رجعت إلى "المنابع" الأولى. النقد العبقري لتاريخ الدولة ويرى عمارة أنه انطلاقا من هذه النزعة التجديدية، وقف الإمام البنا هذا الموقف النقدي، وهو يقيم تاريخ الدول الإسلامية في تاريخنا الحضاري، فكان حديثه عن العوامل السبعة التي أدت إلى تحلل كيانها، ومن ثم حدوث الفراغ الذي أخذ يتمدد فيه النموذج الغربي للدولة القومية الحديثة: "أهم عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية" – تاريخيا – هي: أ- الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه. ب- الخلافات الدينية والمذهبية. ج- الانغماس في ألوان الترف والنعيم. هـ- إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة. و- غرور الحكام بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم، حتى سبقتهم في الاستعداد والأهبة، وأخذتهم على غرة. ز- الانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم، والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع. وبهذا النقد العبقري –على حد قول د. عمارة- قدّم الأستاذ البنا للصحوة الإسلامية ميزانا تزن به نظم الحكم الإسلامية في تاريخ الإسلام. مواجهات مختلفة يعدد د. عمارة مجموعة من المواجهات التي تصدى لها البنا في كتاباته وتعاليمه؛ ففي مواجهة الذين اكتفوا من مقاصد "الاستقلال" بالاستقلال "السياسي" – الذي يقف عند "العَلَم" و"النشيد"! دعا الأستاذ البنا إلى الاستقلال الشامل الذي يحقق "سيادة الأمة"؛ لأن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال، فضلا عن السيادة وإعلان الجهاد، ولو كلفهم ذلك الدم والمال. وفي مواجهة المضمون الغربي، الضيق الأفق، والانعزالي، لكل من "الوطنية" و"القومية"، والذي وجد له دعاة وأحزابا تخندق بعضها عند "الوطنية الإقليمية"، وتخندق بعضها الآخر عند "القومية العنصرية"، وافتعل آخرون التناقضات بين الإسلام وبين الوطنية والقومية... وفي مواجهة هذا الغلو، رأينا الأستاذ البنا يبعث – بالتجديد – المنهج الإسلامي الذي يؤلف بين جميع دوائر الانتماء – الوطني والقومي والإسلامي والإنساني – فيسلكها جميعا في سُلّم واحد. وفي مواجهة الغلاة، الذين لا يرون في المجتمعات الإسلامية، وفي عقائد المسلمين المعاصرين إلا شوائب الكفر والجاهلية، فيحكمون بها على الأمة، أو على النظم والحكومات والمجتمعات، في مواجهة هؤلاء الغلاة قدم المشروع التجديدي للأستاذ البنا الموقف الإسلامي الأصيل والمتوازن، قائلا: "فنحن لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض –برأي أو معصية– إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذّب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر". وفي مواجهة المظالم الاجتماعية التي تطحن سواد الأمة – من قبل النهب الاستعماري، ومن قبل الاستغلال الطبقي المحلي – قدّم الأستاذ البنا صفحة من أروع صفحات العدالة الاجتماعية مطبقة على واقعنا المعاصر والمعيش. فقد تحدث الأستاذ البنا عن الواقع الاجتماعي البائس للشعب وسواد الأمة، وقدّم الحلول المدروسة والناجعة لهذا الداء الاجتماعي الذي يشل طاقات البناء والانتماء لدى الملايين. فجاء الإمام حسن البنا لينبه على دور هذا النهب الاستعماري لخيرات البلاد في "انتشار" الجماعة، وفي دعوتها لإقامة العدل الاجتماعي بين الناس؛ فقال: "إن الدعوة نشأت بالإسماعيلية، يغذيها وينميها ما نرى كل صباح ومساء من مظاهر الاحتلال الأجنبي والاستئثار الأوروبي بخير هذا البلد. فهذه قناة السويس علة الداء وأصل البلاء. وفي الغرب: المعسكر الإنجليزي بأدواته ومعداته. وفي الشرق: المكتب العام لإدارة شركة القناة بأثاثه ورياشه ومرتباته. والمصري غريب بين كل هذه الأجواء في بلده، محروم وغيره ينعم بخير وطنه، وذليل والأجنبي يعتز بما يغتصبه من موارد رزقه. كان هذا الشعور غذاء ومددا لدعوة الإخوان، فبسطت رواقها في منطقة القناة، ثم تخطتها". سنة التدرج في الإصلاح وانطلاقا من سنة التدرج في الإصلاح، وليس الهبّات العفوية والانقلابات العنيفة، واجه الأستاذ البنا "المتعجلين" الذين يريدون الوصول السريع إلى "المقاصد"، دون المرور "بدرجات السلم" الموصلة إلى هذه "المقاصد"، ونبّه البنا على خطورة التطلع إلى تحقيق "الغايات" دون التأسيس لمقومات هذه الغايات، وسلوك طريق "المراحل" التي تفضي إلى هذه الغايات. ذلك أن المنهاج الإسلامي في الإصلاح ليس منهاج القفز المباشر على "الدولة"، وإنما هو منهاج التربية "للأمة" أولا، لتأتي "الدولة" بعد ذلك ثمرة ناضجة نضوجا طبيعيا، ولتجد هذه "الدولة" "أمة" مهيأة ومتقبلة للمنهاج الإصلاحي لهذه الدولة الجديدة، فضلا عن رجالات هذه الدولة الجديدة وإطارات مؤسساتها. وفي حالة الأستاذ البنا ودعوته وحركته، فإننا نلمح وعيه بهذه الحقيقة حتى وهو لا يزال في مرحلة التفكير بمشروعه الإصلاحي قبل تكوين الجماعة عام 1928م، فهو يتحدث عن الزلازل التي أصابت الإسلام وأمته ودولته، فيقول: "إنها ألهبت نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجود الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس". يقول د.عمارة: انطلاقا من هذا المنهج عرض الأستاذ البنا للموقف من "الثورة"، فتحدث عن أن الإسلام إنما جاء ثورة كبرى بكل ما تحمل هذه الكلمة من مضامين، وفي كل ميادين الإصلاح والتغيير، فهو الذي نقل وينقل الناس والمجتمعات من الجاهلية إلى الإيمان، ومن الظلمات إلى النور، وهو الذي يحيي موات النفوس والمجتمعات بما يحدثه فيها ولها من تغيير جذري وعميق وشامل في كل الميادين. وعن هذه الحقيقة قال الأستاذ البنا: "إن الإسلام ثورة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، يزلزل الأوضاع الفاسدة، ويحطم صروح البغي والعدوان الشامخة، ويجدد معالم الحياة وأوضاعها، ويقيمها على أثبت الدعائم... إنه ثورة على الجهل... وثورة على الظلم بكل معانيه: ظلم الحكام للمحكوم... وظلم الغني للفقير... وظلم القوي للضعيف... وثورة على الضعف بكل مظاهره ونواحيه: ضعف النفوس بالشح والإثم، وضعف الرؤوس بالغباء والعقم، وضعف الأبدان بالشهوات والسقم". لكن الأستاذ البنا ينبه على أن "الجماعة" ليس في نيتها استخدام "العنف الثوري" الذي تخشاه الحكومات؛ لأن منهج الجماعة هو الإصلاح بالإسلام، وفق منهاج التدرج، وعبر الإعداد المرحلي، اللهم إلا إذا فرض الآخرون على (الجماعة) هذا العنف الثوري، باستخدامه ضدها، وعندئذ تكون مكرهة على رد العدوان بمثله! وفي صياغة هذه "المعادلة الصعبة" ميز بين "إعداد القوة" التي هي طريق الإصلاح والتغيير وبين "الثورة" التي هي "أعنف مظاهر القوة"، والتي لن يلجأ إليها (الإخوان) ابتداء، ولن يسلكوا سبيلها إلا إذا فُرض عليهم، كما يُفْرض القتال على المؤمنين –وهم له كارهون-! تاريخ الصحوة الإسلامية .... وموقع حسن البنا كتب الأستاذ أبو الحسن الندوي في مقدمته لكتاب "مذكرات الدعوة والداعية" للإمام حسن البنا ـ يرحمه الله ـ يصف الأمة الإسلامية وخاصة مصر ويقول: "خفت صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشط دعاة الفساد والهدم والخلاعة والمجون والإلحاد والزندقة والحركات الهدامة والاستخفاف بالدين وقيمه والأخلاق وأسسها، وما آل إليه الأمر في الأقطار العربية بصفة عامة والقطر المصري بصفة خاصة من التبذل والإسفاف والانهيار الخلقي والروحي في الثلث الأول من هذا القرن الميلادي، وإذا بشخصية تقفز من وراء الأستار أو من ركام الأنقاض والآثار تدعو إلى الإصلاح والحاجة إلى استئناف النظر والتفكير في أوضاع الأمة الإسلامية والثورة على الأوضاع الفاسدة والعقائد الضالة والعادات الجاهلية وعبودية القوة والسلطات، ويدعو إلى حياة كريمة فاضلة وإلى مدنية سليمة صالحة، وإلى مجتمع رشيد عادل، وإلى إيمان عميق جديد، وإلى إسلام قوي حاكم، هذا هو حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، صاحب العقل النيِّر، والفهم المشرق، والعاطفة القوية الجياشة، واللسان الذرب البليغ، والزهد والقناعة والحرص وبُعد الهمة في سبيل نشر الدعوة". ولم يعرف العالم العربي وما وراءه منذ قرون قيادة دينية سياسية أقوى وأعمق تأثيراً وأكثر إنتاجاً منها، لقد قام بتكوين حركة إسلامية يندر أن تجد حركة أوسع نطاقاً وأعظم نشاطاً وأكبر نفوذاً وأعظم تغلغلاً في أحشاء المجتمع وأكثر استحواذاً على النفوس . "ولم تقف هذه الصحوة عند حدود الفكر والدعوة وإنما سلكت سبيل التنظيم "الحزب الوطني الحر، جميعة العروة الوثقى، جمعية أم القرى" في نهاية القرن التاسع عشر، ثم الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل (1874م ـ 1908م) وانتمائه الوطني الإسلامي (فالدين والوطنية توأمان متلازمان)، ولم تقتصر الصحوة الإسلامية على الحركات والتنظيمات الإسلامية، فأوسع وأعرض فصائل الصحوة الإسلامية هو التيار الشعبي المستمسك بالهويّة الإسلامية، وفي مقدمة مؤسسات الصحوة الإسلامية الأزهر الشريف، ثم جاء الدكتور عبدالرزاق السنهوري، بتقنين فقه المعاملات الإسلامية"،. في سبيل النهضة: يقول الإمام الشهيد حسن البنا: (مذكرات الدعوة والداعية) "لا نهوض لأمة بغير خُلُق، فإذا استطاعت الأمة أن تتشبع بروح الجهاد والتضحية، وكبح جماح النفوس والشهوات أمكنها أن تنجح في التحرر من قيود المطالب النفسية والكماليات إلى قوة الإرادة واليقظة والكفاح الجاد والصبر الجميل، ويقول ـ رحمه الله ـ بمناسبة مرور عشر سنين على دعوة الإخوان المسلمين عام 1938م في افتتاحية لمجلة النذير (منذ عشر سنين بدأت دعوة الإخوان المسلمين خالصة لوجه الله ـ مقتفية أثر الرسول الأعظم ص سيد الزعماء وأهدى الأئمة وأكرم خلق الله على الله ـ متخذة القرآن منهاجها تنادي به وتعمل له وتنزل على حكمه وتوجه إليه أنظار الغافلين عنه من المسلمين وغير المسلمين، كذلك كانت وستظل دعوة "إسلامية محمدية قرآنية" لا تعرف لوناً غير الإسلام، ولا تصطبغ بصبغة غير صبغة الله العزيز الحكيم، ولا تنتسب إلى قيادة غير قيادة رسول الله، ولا تعلم منهاجاً غير كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والإسلام عبادة وقيادة، ودين ودولة، وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، وطاقة وحكم، ومصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر (وإن الله ليزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن)، . وعلى طريق الصحوة الأسلامية الدائمة لا نستطيع الأحاطة بالأفراد والجماعات الذين ارتفعوا بدعوة الحق لكن رجاؤنا في الله كبير ان يفتح البصائر على الحق وان يفتح العيون على الواقع والله الهادي والموفق والمعين زياد علوش(كاتب وأعلامي لبناني)