كالفن: الإصلاحي الذي تحوّل ديكتاتوراً

تاريخ الإضافة الأربعاء 17 نيسان 2013 - 7:13 ص    عدد الزيارات 781    التعليقات 0

        

 

كالفن: الإصلاحي الذي تحوّل ديكتاتوراً
بقلم حسين الموزاني
الكاتب الالماني البارز ستيفان زفايغ، الرافض جميع أشكال الحروب والنزاعات المسلحة، نشر كتابه عن الديكتاتورية عام 1936 بعنوان "كاستيليو ضد كالفن، أو الضمير ضد العنف". الكتاب الذي ما زال راهناً بطرحه عدداً من الاسئلة والقضايا الملحة التي واجهتها الشعوب الاوروبية، وتواجهها اليوم، نقله من الالمانية الى العربية* الكاتب والمؤلف المسرحي اللبناني فارس يواكيم.
ينتمي ستيفان زفايغ إلى طائفة من كتّاب اللغة الألمانية الكوزموبوليتيين البارزين والذين تغلب على أعمالهم الأدبية النزعة الإنسانية العالية. ومنهم روبرت موزيل وراينر ماريا ريلكه وهوغو فون هوفمانستال وفرانتس كافكا وتوماس مان وكورت توخولسكي وغيرهم العديدون من كتّاب القرن العشرين.
ويتميّز زفايغ عن مجايليه بتمسكه الثابت بالمبادئ السلمية ورفضه القاطع لجميع أشكال الحروب والنزاعات المسلحة. وقد كتب توماس مان لمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته بأنه كان يمتعض أحياناً من الروح السلمية المتجذرة في أعماق زفايغ "حتّى أنّه كان مستعداً لتحمل سلطة الشرّ إذا ما حالت دون وقوع الحرب التي كان يبغضها. وكانت هذه بحدّ ذاتها معضلة عصيّة على الحلّ. لكننا بعدما أدركنا بأنّ الحرب الخيرة لم تكن أصلاً سوى حرب شريرة، بدأت أفكر أو أحاول التفكير بشكل مختلف في مواقفه التي اتخذها آنذاك".
نشر ستيفان زفايغ كتابه في عام ١٩٣٦ أي قبل "انضمام" النمسا إلى الرايخ الألماني الثالث بزعامة هتلر. ويحمل الكتاب انتقاداً مبطناً للسلطة النازية المطلقة، وجعل من شخصية جان كالفن المتعصّب دينياً نظيراً لأدولف هتلر المتعصب قومياً وسياسياً.
ويشدد زفايغ في مناظراته على البعد الأخلاقي المتمثل بالضمير الإنساني اليقظ. ويستعرض شخصيات الكتاب كما لو أنه يستعرض شخوص مسرحية فنيّة. وربما فعل ذلك بسبب بُعد الفترة الزمنية التي يعالجها. والشخصيات الرئيسة في العمل هي كالفن وسيرفيت وكاستيليو، وهم كلّهم من اتباع الكنيسة البروتستانتية اللوثرية، التي أسبغ عليها الإصلاحيون الفرنسيون، ومنهم كالفن نفسه نفحة استقلالية فرنسية الطابع.
ويكمن سرّ تفرّد كالفن بالسلطة الدينية المطلقة في هذه الاستقلالية، فليس هناك متابعة أو مراقبة أو حتى احتجاج من المراكز الكنسية الأوروبية الأخرى من شأنها أن تضع حداً لسلطته وتسلطه. وكان كالفن يسيطر على جميع مرافق الحياة الدينية والدنيوية في جنيف التي عرفت آنذاك نوعاً من السلطة المدنية، الديموقراطية نوعاً ما. ووصل نفوذه إلى مجلس المدينة والمجمع الديني والمحاكم والشؤون المالية والأخلاقية والمدارس ودوائر الشرطة والسجون ودور النشر، بل شملت سلطته التجسس والمراقبة السريّة للمواطنين أو رجال الدين الذين كان يتوجس منهم خطراً.
أما خصمه فكان كاستيليو، الرجل المثالي المؤمن بالمسيحية السلمية وحرية الفكر الإنساني والمفكّر المثقف والشجاع في مقارعة الظلم والطغيان. وكان في الواقع لاجئاً وفقيراً مدقعاً لا يكاد يوفر القوت لأسرته وأبنائه عبر الترجمات والدروس الخصوصية، وهو بالإضافة إلى ذلك رجل دين مستقل لم يرتبط بحزب ولم ينتم إلى دولة أو فكر قومي محدد، "إلا أنه خرج من أشغاله السلمية تلك، إثر إعدام سيرفيت، ولبّى نداء ضميره الملّح بقوة، واتهم كالفن باسم حقوق الإنسان المنتهكة".
أما الشخص الثالث في هذا التراجيديا الدينية فهو الإسباني ميغيل سيرفيت الذي ألفّ كتاباً تعليمياً بعنوان "تصحيح المسيحية" اعتبره كالفن تجديفاً ومروقاً وتحدياً لسلطته المطلقة. فدبر له مكيدة، رغم أنه كان زميل دراسته، وأوقع به ثم أخضعه لمحاكمة صورية انتهت بإعدامه حرقاً في عام ١٥٥٣. 
هذه الجريمة التي ارتكبت باسم الحركة التصحيحة التي كان تسعى للخروج من السلطة الدوغمائية للكنيسة البابوية هزّت مشاعر كاستيليو ودفعته للطعن بآراء كالفن ومقارعته حجةً بحجة، لتظهر في تلك الحقبة التاريخية المظلمة بوادر التنوير الديني التي انتشرت بعد قرون في جميع البلدان الأوروبية. وانطلق كاستيليو في محاججاته من أن "قتل إنسان لا يعني قطّ الدفاع عن التعاليم، بل يعني قتل إنسان". وبهذا يكون كاستيليو قد اختار الوقوف إلى جانب الحقّ من ناحية وإلى جانب الحياة نفسها التي أراد كالفن إبادتها باسم الدين من ناحية أخرى.
وأضرّ كالفن بمبدأ الاقتناع الذاتي و"حريّة الإنسان المسيحي" الذي وضعه مارتن لوثر، "وانتزعه من جذوره بلا هوادة، كما اقتلع كلّ أشكال الحرية الفكرية لدى الإنسان". وبهذا فهو يذكّر بشخصيات دينية أخرى على غرار سافونارولا (١٤٥٢-١٤٩٨) الواعظ الكاثوليكي المتشدد والذي كان يطالب بحرق الكتب قبل أن يعدم هو نفسه حرقاً، وكذلك شخصيات إسلامية متشددة وجهادية مثل ابن تيمية (١٢٦٣-١٣٢٨) أو محمّد بن عبد الوهاب (١٧٠٣-١٧٩١) أو الخميني (١٩٠٢-١٩٨٩).
فخلال السنوات الخمس الأولى من عهد كالفن "نفّذت في جنيف التي تعتبر مدينة صغيرة نسبياً، أحكام الشنق في ثلاثة عشر رجلاً وقطعت عشرة رؤوس، وجرت خمس وثلاثون حالة حرق، إضافة إلى ستة وسبعين رجلاً تمت مطاردتهم من البيوت والأفنية، دون إحصاء العديدين الذين تمكنوا من الفرار من الإرهاب في الوقت المناسب".
ولم يكتف كالفن بتصفية زميل دراسته سيرفيت بل حاول الإيقاع برجل الدين الورع والمهذب كاستيليو وتسليمه للمحرقة أيضاً. وكان كاستيليو يدرك بأنّ تلك المعركة، أو "المناظرة" الفكرية تنطوي على أبعاد تاريخية تتعلق بالأخلاق والضمير الإنساني والإيمان الدينيّ بشكل مطلق، فآثر الردّ على كالفن بأسلوب مهذب ومتزن، فكتب له يقول "من دون حماسة أمضي في طريق الجدل العلني هذا. وكم كنت أتمنى لو أنني تمكنت من النقاش الأخوي معك في ظلّ روحية المسيح وليس بالأسلوب الغليظ المبني على الشتائم التي لا يمكن إلا أن تلحق الضرر باحترام الكنيسة".
يطرح كتاب ستيفان زفايغ عدداً من الأسئلة والقضايا الملحّة التي واجهتها الشعوب الأوروبية ومازالت تواجهها إلى يومنا هذا. وقد ساهمت ظاهرة التزمت الدينيّ التي رافقت الحركة التصحيحية اللوثرية في قطع الطريق أمام حركة التنوير والإيمان بالعلم المعرفة والتعامل الإنساني مع الثقافات الأخرى مثلما فعلت عائلة مديتشي المعاصرة لكالفن على سبيل المثال. وأدّى ذلك في نهاية المطاف إلى تخلّف القارة الأوروبية فكرياً وأخلاقياً لقرون عدة وبروز ظواهر القمع والعنصرية والتبشير الاستعماري البعيد عن الروح المسيحية المنفتحة والقائمة على التسامح والتعايش المشترك مع الأقوام والديانات الأخرى.
ومن المفزع حقّاً أن نرى كالفن، الواعظ الديني المتعلّم، وليس رجل السياسة، يلجأ إلى أساليب ديكتاتورية خبيثة لم تكن معروفة بهذه الدقة والبراعة في تلك الحقبة الزمنية الفاصلة في تاريخ التنوير الأوروبي. ومن حسن حظ البشرية أن هناك رجل دين مثقفاً وذا ضمير حيّ اسمه سيباستيان كاستيليو تصدى لكالفن بشجاعة نادرة دفاعاً عن الإنسانية وضميرها الحيّ. ولابد من الإشارة إلى أن المترجم فارس يواكيم بذل جهداً ملموساً في نقل هذا العمل القيّم إلى العربية، وحرص على أن تكون لغته مفهومة وسلسة وخالية من الإطناب والحشو، مدركاً أهمية الكتاب ومعاصرته وفائدته للقارئ العربي؛ فجاء العمل صافياً متقناً يستحق الإطراء، والقراءة قبل كلّ شيء.
¶ ستيفان زفايغ، عنف الدكتاتورية، ترجمة فارس يواكيم، بيروت – دار الفرات - 2013

جهود الأردن لإغاثة قطاع غزة في مرمى «القصف» والتشكيك..

 الأحد 17 آذار 2024 - 5:24 ص

جهود الأردن لإغاثة قطاع غزة في مرمى «القصف» والتشكيك.. حملات خارجية «موجّهة» بتهمة إطالة أمد الحص… تتمة »

عدد الزيارات: 150,186,391

عدد الزوار: 6,681,951

المتواجدون الآن: 81